الانفتاح التركي على سوريا... براغماتية جيوسياسية
يفترض عدم قراءة التحوّل التركي انطلاقاً من تفاعلات العلاقات مع سوريا، وإنما انطلاقاً من تقديرات تتعلّق بالمصلحة التركية، والتي باتت دوائر القرار ترى في مشروع الانفتاح على سوريا ما يمكِّن من تحقيقها.
بعد نحو 13 سنة من القطيعة بين الدولتين التركية والسورية نتيجة الموقف التركي من الأحداث التي عصفت بسوريا عام 2011، عادت الدولة التركية لتؤسس سياساتها على شيء من الواقعية السياسية التي فرضتها مجموعة من الأحداث، التي لم ترتبط فقط بصمود الدولة السورية في وجه الحرب التي شُنّت عليها، وإنما تعدّتها لترتبط أيضاً بظروف ومقدّرات تركيا الداخلية وبموازين القوى التي أرستها روسيا في شرق أوروبا، بالإضافة إلى عدم قدرة الولايات المتحدة على الحفاظ على تفوّقها وقوتها في المنطقة، من دون أن نهمل تصلّب الموقف الأوروبي الرافض لفكرة دمج تركيا في نسيجه القاري والمتجه يوماً بعد يوم نحو التطرّف اليميني المتمسّك بالسيادة الوطنية على حساب تقليص صلاحيات الاتحاد الأوروبي.
وعليه، يفترض عدم قراءة التحوّل التركي انطلاقاً من تفاعلات العلاقات مع سوريا، وإنما انطلاقاً من تقديرات تتعلّق بالمصلحة التركية، والتي باتت دوائر القرار ترى في مشروع الانفتاح على سوريا ما يمكِّن من تحقيقها.
في هذا الإطار تُفترض العودة إلى بداية الأزمة في سوريا، حيث عدّ الرئيس التركي أنّ الموقفين الخليجي والغربي من الحكم في سوريا والإصرار على إسقاط النظام فيها قد يشكّل منطلقاً لمرحلة جديدة، مرحلة تفرض على تركيا ضرورة مقاربة مصالحها وتوجّهاتها وفق ترتيبات مختلفة عن المرحلة السابقة التي كان عنوانها عدم المساس بتوازنات الحرب الباردة.
وبالتالي، لم يكن من الممكن تقدير السلوك التركي في تلك المرحلة على أنه يعبّر عن كيفية مواجهة أخطار الأزمة السورية على الأمن التركي، وإنما كان يدلّل على تدخّل كان يستهدف تكريس واقع يضمن عدم تخطّي أو إهمال المصالح القومية للدولة التركية حين تحين لحظة انعقاد التفاهمات.
فالاعتماد على علاقات الصداقة والتحالفات التي حرصت الدولة التركية على عقدها مع الدول الغربية لن يقدّم لها مظلّة أمان تقيها تداعيات الواقع الإقليمي وتعطيها ما تعتقد أنه مناسب لطموحاتها.
فالإصرار الأميركي على دعم الكيان الكردي في شرق الفرات والامتناع عن التدخّل المباشر ضدّ الدولة السورية، معطوفاً على حصر الاتحاد الأوروبي لتفاهماته مع الدولة التركية ضمن عناوين ترتبط باللجوء، وبدور تركي مفترض يستهدف الحؤول دون تمدّده نحو القارة، بالإضافة إلى أنّ تصلّب الموقفين الروسي والإيراني خلف القيادة السورية ومواجهة أيّ محاولة لإسقاطها قد أثار لدى الدولة التركية المخاوف من أن تدخل المنطقة في مرحلة طويلة من السبات، والذي سيجعلها تتحمّل وحدها العبء الأكبر من تداعيات التجاذب الدولي في سوريا، والذي أظهر حتى اللحظة تعقيدات لا حلول آنية أو قريبة لها.
وإذا أضفنا إلى هذه المعضلة التركية الإقليمية تعقيدات الواقع الداخلي لناحية الأزمة الاقتصادية والمالية التي لم تكن أزمة 2008 الاقتصادية العالمية التي أدت إلى التوسّع التركي الكبير في الاقتراض بالعملات الأجنبية سبباً وحيداً لها، وإنما شكّلت العقوبات التي فرضها دونالد ترامب، الرئيس السابق الذي يتحضّر بقوة للعودة إلى البيت الأبيض، على تركيا سبباً إضافياً من دون أن نهمل ما قامت به بعض المؤسسات المالية والصناديق الاستثمارية المتمركزة في أوروبا من مضاربات على الليرة التركية.
يمكن الاستنتاج أنّ التقدير التركي يفترض موقفاً غربياً سلبياً منه، حيث أن هذه العقوبات كانت تستهدف خلق أزمة مالية تطيح بحزب العدالة والتنمية ورئيسه رجب طيب إردوغان من الحكم، بعد أن كان قد نجح في إفشال الانقلاب الذي قاده عبد الله غولن المقيم في الولايات المتحدة الأميركية والتي رفضت مطلقاً أيّ بحث في تسليمه.
أما بالنسبة للجوء السوري في تركيا، فبعد أن كانت الدولة التركية ترى في استقبال اللاجئين ورقة قوة من الممكن استخدامها للضغط على الطرفين السوري والأوروبي، أدى طول أمد الأزمة السورية إلى تحوّل اللجوء السوري في تركيا إلى عبء أمني واقتصادي واجتماعي دفع لتحوّله إلى مادة انتخابية استغلّتها المعارضة التركية للتصويب على سياسات إردوغان من جهة، ورفضت الدولة السورية إيجاد حلّ يصبّ في مصلحة النظام التركي من دون أن تحقّق من ورائه ما يمكّنها من استعادة سيادتها على الأراضي التي احتلتها أو سيطرت عليها تركيا من جهة أخرى.
وعليه تقاطعت الأسباب الخارجية مع تلك المرتبطة بالوضع الداخلي التركي لتفرض على القيادة التركية ضرورة إعادة النظر في توجّهاتها الخارجية، وخصوصاً تجاه الدولة السورية. فمن خلال الانفتاح التركي على سوريا والعمل على إيجاد تسوية للمسائل العالقة بينهما، قد تتمكّن الدولة التركية من تحقيق ما يساعد في استعادة توازنها على المستويّين الداخلي والخارجي. فالانفتاح على سوريا بعد الجهود لإعادة ضبط العلاقة مع بغداد سيساعد في تعميق الثقة مع الجانبين الروسي والإيراني.
فمن خلال التسليم بعدم المسّ بما تعدّه الدولة الروسية مصلحة استراتيجية لها في المنطقة، والعودة إلى تأدية دور الموازن الجيوسياسي في المنطقة من خلال عدم الانحياز للغرب، قد تنجح تركيا في تخطّي إشكالية موافقتها على عضوية كلّ من السويد وفنلندا، وإعادة تعميق علاقاتها مع الولايات المتحدة الأميركية، حيث قد تنجح في إثبات أنّ هذين الحدثين لا يفترض قراءتهما في سياق عداء تركي لروسيا.
أما بالنسبة للعلاقة مع الجمهورية الإسلامية الإيرانية، فإن الانفتاح على حلول للأزمة التركية مع سوريا والعراق قد يساعد في طمأنة الجمهورية الإسلامية المتمسّكة بوحدة الأراضي السورية والعراقية، وفي تفويت فرصة تقسيم المنطقة الذي قد يشكّل خطراً وجودياً على الدولتين التركية والإيرانية المتمسّكتين بعدم إعطاء الكرد أيّ فرصة للحصول على حكم مستقل، إنْ في سوريا أو العراق، إذ إنّ نجاح أيّ محاولة انفصالية كردية قد ينتقل كالعدوى ليطال الكرد الموجودين في إيران أو تركيا، من دون أن ننسى أثر عودة اللاجئين السوريين من تركيا على الاقتصاد والواقعين السياسي والمجتمعي التركي والسوري على حد سواء.
وعليه، يمكن التقدير أنّ التحوّل التركي على مستوى سياساتها الخارجية تجاه الدولة السورية، والسعي لإعادة تطبيع العلاقات مع الدولة السورية لن يُقرأ إلا في إطار براغماتية تعتمدها الدولة التركية من أجل تحقيق مصالحها القومية، مع الإشارة إلى أنّ هذا التوجّه لن يكون محسوماً طالما أنه لا يُقرأ في إطار حفظ المصالح التركية أولاً، بالإضافة إلى ما يمكن أن تفعله الولايات المتحدة الأميركية التي لم توافق على هذا التطبيع، وبالتالي قد تتدخّل في أيّ لحظة لعرقلة هذا المسار أو إفشاله.