الاتفاقيات العراقية التركية والقلق الكردي
أنقرة أعلنت استئناف الشحنات. وأصبح على شركات النفط أن تتعامل مع شركة النفط العراقية وليس مع شركات كردستان.
ذهب الرئيس طيب إردوغان إلى بغداد بعد 12 عاماً من القطيعة، وهو يحمل مشاريع يحتاج إليها العراق بعد عملية مستمرة من عدم الاستقرار مند عام 1980 لغاية عام 2014، حيث باتت بغداد اليوم تبحث في إعادة الإعمار وحل مشكلاتها التنموية. وفي هذا السياق، تعلق أهمية كبيرة على ميناء الفاو وطريق التنمية في البصرة، وحل مشكلات المياه. والقوى العراقية، بتنوعها، اجتمعت ساعية للابتعاد عن الخلافات في بحث مشكلات النهوض. من هنا، يكتسب تطبيع العلاقة بتركيا أهمية، لأن حزمة المشاريع هي ما يحتاج إليه الجميع.
لا تتمثل الكتل العراقية المتنوعة في كتلة واحدة. التركيبة السياسية الاجتماعية العراقية متنوعة وهي تعمل على التوافق. ومهما تم إنجازه على الورق من اتفاقات فإن الممارسة تبقى هي الفيصل. لذلك، كان لا بد من التوافق بين القوى السياسية وجلوسها إلى طاولة المفاوضات في بغداد في نطاق المحادثات التحضيرية.
جرى التوقيع على ستّ وعشرين مذكرة تفاهم في كل المجالات السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، والسياحية، بينما ترتبط خمس منها بالتعاون في المجالات الاستراتيجية والعسكرية والأمنية ومكافحة الإرهاب والتصنيع الحربي.
كان لدى إردوغان ثلاث أوراق مهمة بالنسبة إلى العراق، هي "المياه" التي يتوق إليها العراق، و"مسار التنمية" الواعد، و"شحنة النفط" العالقة. فهي أساسية بالنسبة إلى العراق، وتم التوقيع على مشروع الطريق التنموي، والذي تبلغ تكلفته 17 مليار دولار، ويتصل بآسيا، ويبدأ من الخليج/الفاو، ويربط العراق بتركيا ويصل إلى أوروبا، ويمر بين العراق وتركيا وقطر والإمارات العربية المتحدة. وهناك جدول زمني مرحلي بين الأعوام 2028 و2033 و2050 لإنشاء الخط الذي ستكون له خطوط طاقة واتصالات موازية للطرق والسكك الحديدية.
يتوقع العراق أن يتدفق 400 متر مكعب من المياه في الثانية من نهر دجلة، و500 متر مكعب من نهر الفرات. وبموجب الاتفاقية، سيتم تجديد أنظمة الري عبر صندوق يتم إنشاؤه من عائدات النفط، وسيتم تحويل قنوات المياه المفتوحة إلى قنوات مغلقة، وسيتم تنفيذ مشاريع مشتركة لبناء السدود التي ستوفر التنظيم بحسب فترات الأمطار والجفاف.
وفيما يتعلق بالنفط، وعلى رغم استمرار المفاوضات بشأن التعويضات البالغة 1.4 مليار دولار من التحكيم في باريس، فإن أنقرة أعلنت استئناف الشحنات. وأصبح على شركات النفط أن تتعامل مع شركة النفط العراقية وليس مع شركات كردستان.
الخطة الاستراتيجية التركية والتباين مع العراق
التباين كان واضحاً بين بغداد وأنقرة في الورقة الاستراتيجية. اتخذت الحكومة العراقية موقفاً استباقياً وتحدثت عن منح وضع اللاجئ السياسي لأعضاء حزب العمال الكردستاني.
لا يريد العراق أن يكون شريكاً في الحرب ضد الحزب، بينما تسعى أنقرة لتحقيق عدة أهداف، أهمها توسيع حدود المنطقة الآمنة بعمق يتراوح بين ثلاثين وأربعين كيلومتراً على طول الحدود التركية المشتركة مع كل من العراق وسوريا، وسعت لإقناع بغداد بضرورة القيام بتأمين خط الحدود الفاصل بينها وبين الأراضي السورية، وهي تسعى لتحييد حزب العمال الكردستاني وإبعاده عن المناطق الحدودية التركية، والعمل على الانتهاء من البنية التحتية في المنطقة الآمنة، على نحو يسمح باستقبال مليوني لاجئ من السوريين المقيمين بأراضيها، مع التركيز على إنشاء عدد من التجمعات السكنية الملائمة، وتوسيع نطاق البنى التحتية الخدمية والتجارية والزراعية والصناعية. وهو ما ترفضه الإدارة الأميركية بشدة، لغاية الان، وهي تسعى لتقادي الحرب وإقناع تركيا بخططها بشأن هذا الموضوع.
لكن، هل يمكن للنقاط الخلافية بين العراق وتركيا أن تؤدي إلى عرقلة ما تم التوافق بشأنه، أي نهج مكافحة الإرهاب وآلياته.
مسألة التوغل التركي داخل الأراضي العراقية تأتي في مقدمة هذه الخلافات، بالإضافة إلى إنشاء تركيا قواعد عسكرية وأبراج مراقبة في الشمال العراقي، بحيث يرتبط هذا الأمر بمسألتي السيادة واستقلالية قراره.
ما يمكن للعراق أن يقوم به هو أن يتمركز حراس الحدود العراقيون في أماكن معينة، مع التركيز بصورة أكبر على الاتفاق بين أربيل وبغداد لزيادة السيطرة على المركز في شنكال. وظيفة مركز العمليات المشتركة المتوخاة بالنسبة إلى العراق بين الجيش التركي والقوات المركزية العراقية والبشمركة ترمي الى تعزيز أمن الحدود.
حظر العراق أنشطة العمال الكردستاني، ورفض استمرار وجوده المسلح، وعدّ أعضاءه لاجئين سياسيين، وصرح سياسيوه بأنه "لا يمكننا أن نسمح بشن هجوم على دولة أخرى عبر الأراضي العراقية".
في الوقت عينه لا يريد العراقيون أن تتحول العلاقات بحزب العمال الكردستاني إلى علاقة "عدائية"، لكنهم أكدوا أنهم سيتعاملون مع قضية حزب العمال الكردستاني، كما هي الحال في الاتفاقية الأمنية مع إيران، حيث تم إخلاء المعسكرات وزيادة الإجراءات الأمنية على طول الحدود.
وتم نقل بعض الكرد الإيرانيين في وقت لاحق إلى المعسكرات التي تسيطر عليها الأمم المتحدة. لكن إردوغان يقوم باستعدادات عسكرية ونفسية لحرب كبرى، منذ أشهر، ومصمم على استكمال عمليات "قفل المخلب"، التي بدأها مند عام 2019. لذلك، ستستمر التوترات مع العراق، لكن بصورة مغايرة، هذه المرة.
كردستان القلقة والموقف الأميركي
القلق ينتاب الحزب الديمقراطي الكردستاني بسبب توجهات إردوغان مع العراق، والتي يمكن أن تؤدي إلى ضرب استقلالية كردستان عبر ربط طريق التطوير إلى تركيا مع البوابة التي سيتم فتحها من أوفاكوي والذي سوف يتجاوز الخابور.
وهذا الوضع سيوجه ضربة إلى أهمية كردستان الاستراتيجية ومصالحها الاقتصادية. وإعطاء السلطة لبغداد بشأن نقل النفط يُظهر كردستان كأنها تتلاشى. هذا ما يقوله الحزب في جلساته الخاصة، وليس علناً. كردستان ترى أن مدى الارتباط بالممر الجديد سوف يكتسب أهمية.
يبني إردوغان مسار التنمية كحاجز أمني، بحيث يريد سيطرة تركيا على خط الحدود العراقية السورية، على الأقل الجزء الممتد من فيشهابور إلى ربيعة. وذلك سيتضمن بعداً يَحُدّ سيطرة كردستان على المنطقة.
لا يرى الأميركيون مشكلة في تفريق معسكرات حزب العمال الكردستاني في كردستان، بما في ذلك قنديل، من خلال العمليات العسكرية، ومع أنهم كانوا يقفون وراء العلاقات التي أقامتها وحدة مكافحة الإرهاب التابعة للاتحاد الوطني الكردستاني مع "قوات سوريا الديمقراطية"، التي سببت نقمة تركيا عليها ومنعت طيران السليمانية من الهبوط في مطارات تركيا، الأمر الذي شكل أزمة لم تحلها حكومة السوداني مع تركيا.
المهم بالنسبة إلى الأميركيين عدم المس بـ"قوات سوريا الديمقراطية" في سوريا، وهم على استعداد للتوسط لنقل القيادة في قنديل من المنفى إلى العمل السياسي. وإذا تمكنت تركيا من حل المشكلة الكردية وإيجاد طريقة للدخول في شراكة مع الكرد في الجانب السوري، فسوف ينحسر التوتر بشأن الوجود الأميركي في المنطقة.
بعد أن تم إعلان الاتفاق بين أنقرة وبغداد تم عقد مباحثات ثنائية مكثفة في مقر الخارجية التركية مع وفد أميركي برئاسة إليزابيث ريتشارد، منسقة مكافحة الإرهاب في الخارجية الأميركية، وأعادت تركيا على مسمع المسؤولة الأميركية رفضها التام التعاون مع تنظيم إرهابي لمكافحة تنظيم إرهابي آخر، في إشارة إلى تبريرات واشنطن لما تقدمه من دعم مطلق إلى التنظيمات الإرهابية، التي تقوم بمحاربة تركيا، انطلاقاً من الحدود السورية والعراقية.