الإمبراطورية الجريحة
تشكّل أوكرانيا فرصة لفهم الغرب بشكل أفضل، والنظر في كيفية نظر الإمبراطورية الغربية بقيادة الولايات المتحدة إلى العالم في لحظة الحقيقة.
تواجه روسيا الغرب في هذه المعركة. لا يجب أن يشكّل ذلك محلاً للجدال. ومن يجد إشكالاً في مفهوم الغرب، يمكنه العودة إلى تعريف ستيفن كوتكن؛ أحد كبار خبراء التاريخ الروسي: الغرب ليس مكاناً جغرافياً، إنما هو سلسلة من المؤسسات والقيم أو الممارسات. وفق هذا المعنى، إن روسيا الأوروبية ليست غربية، بينما اليابان التي لا تقع في الغرب جغرافياً هي جزء من الإمبراطورية الغربية.
في العام 181 قبل الميلاد، انتحر القائد القرطاجي هانيبال، مؤْثِراً تناول السم على أن يسلَّم أسيراً في أيدي أعدائه الرومان. جاء ذلك بعد مرور أكثر من 30 عاماً على قيادة هانيبال جيوشه عبر جبال الألب وإبادته الجحافل الرومانية في أكثر من معركة شهيرة.
لم يكن مهماً حينها أنَّ هانيبال كان منفياً ومطارداً لعقود، كما لم يكن مهماً أيضاً أنَّ روما تحوّلت إلى إمبراطورية كبرى. دفع هانيبال حياته ثمناً لإذلال الإمبراطورية، لكن ذلك لم يكن كافياً للرومان. أنهت الإمبراطورية انتقامها في العام 146 قبل الميلاد بتسوية قرطاج بالأرض وبيع سكانها للعبودية.
لم يكن موت هانيبال كافياً للإمبراطورية. إذاً، يرتبط الانتصار بشكل وثيق بهوية الأطراف وماهيتهم. وبالقياس على الحرب في أوكرانيا مع تجاوز شهرها الأول، لا يبدو أنَّ شيئاً قد تغير في تفكير الإمبراطورية منذ ذلك الحين حتى الآن.
هناك الكثير من الجوانب التي يمكن الحديث عنها في الحدث الأوكراني، تلك التي لا تتعلق بالتطورات العسكرية وسير المعارك على أهميتها. تشكّل أوكرانيا فرصة لفهم الغرب بشكل أفضل، والنظر مجدداً في التراكم المعرفي والفلسفي المزعوم، وفي كيفية نظر الإمبراطورية الغربية بقيادة الولايات المتحدة إلى العالم في لحظة الحقيقة.
إنَّ ماهية اللحظة وما يتسرَّب عن المفاوضات الروسية الأوكرانية تجعل تحديد مفهوم الانتصار أكثر الجوانب إثارة للاهتمام، وخصوصاً أن أطراف المواجهة الغربية على وجه التحديد تبدو في حالة استعجال نحو تقييم النتائج منذ الآن، وافتراض هزيمة روسية على أساس معطيات الميدان.
لا يوجد حتى اليوم من يمتلك الإجابة حول الأهداف الروسية من العملية العسكرية. قد يقال إنَّ روسيا أرادت تأمين إقليم دونباس لا أكثر، ويمكننا الذهاب بعيداً في الحديث عن أنَّ روسيا أرادت السيطرة على كامل أوكرانيا. وبالمثل حول مجريات المعركة، إذ تتراوح التقديرات بين سير العملية العسكرية وفق الخطة، تبعاً لغموض الأهداف، والتعثر والفشل أيضاً.
على هذا الأساس، لا يبدو الحديث في الميدان محدداً لماهية الانتصار. ثمة مروحة من المعطيات التي يجب وضعها في عين الاعتبار قبل مناقشة ذلك، فماذا لو احتفظت روسيا بالقرم ودونباس، وحصلت على الضمانات الأمنية؟ هل سنقول حينها إنَّ روسيا انتصرت أو هزمت؟ وماذا لو حسمت روسيا المواجهة بخسائر كبيرة؟ مع التذكير هنا بأنَّ الطرف المنتصر في الحرب العالمية الثانية، الحلفاء، كان الطرف الأكثر تكبداً للخسائر.
سيصرّ الطرف الغربي على وضع معطيات الميدان كمحدد لقياس الانتصار، تأسيساً على غموض الأهداف الميدانية الروسية، فيما ستتحدَّث روسيا بآلتها الدعائية الضعيفة عن أهداف حققتها، لكن ذلك لا يمنع من القول إنَّ ما نحن بصدده ليس حسماً بالضربة القاضية، وإنما بتسجيل النقاط، في مواجهة يبدو أنها ستكون مفتوحة، وعلى أكثر من مستوى.
لم ترد موسكو غزواً عسكرياً بالمعنى الحرفي. بات ذلك واضحاً، إنما أرادت فعلاً عسكرياً يُصرَف في السياسة. ومع عدم الخوض في موجبات الأمن القومي الروسي التي باتت معروفة، يمكن القول إن أوكرانيا هنا تفصيل في الصورة الكبيرة؛ الصورة التي تضمن لروسيا أهدافها الاستراتيجية، وكذلك تضع اللبنة الأولى لنظام عالمي جديد أراد بوتين بدء مخاض ولادته.
لم يواجه الغرب تحدياً بهذا الحجم من قبل. وإذا ما عدنا إلى ما قبل العملية العسكرية الروسية، يمكن القول إن الغرب غير متفق على ماهية التحدي أصلاً. ظهر ذلك بشكل جلي في قمة الناتو في العام 2021 وفشل واشنطن في حشد حلفائها تحديداً في مواجهة الصين، وعاد ذلك إلى الظهور في هستيريا التصريحات والعقوبات في إثر العملية العسكرية الروسية. بدا الغرب في رد فعله كمن يطلق النار على كل شيء حوله، بما في ذلك مواطنو دوله.
وفق المنطق الأميركي، يخوض الغرب حرباً حضارية بين الديمقراطية والاستبداد، كما أعلن بايدن نفسه. توحدت أوروبا في معارضة العملية العسكرية الروسية، وصُدّر ذلك انتصاراً في إطار المواجهة التي عرّفتها الولايات المتحدة، ولكن لماذا يبدو الموقف الموحد مقتصراً على روسيا في أوكرانيا؟ ومع مرور الوقت، وتباين مصالح أوروبا عن مصالح الولايات المتحدة، هل ستبقى هذه الجبهة موحدة؟
هل ننسى المواجهة الباردة بين بريطانيا وفرنسا أو طموح باريس لقيادة الاتحاد الأوروبي بعد البريكست، ناهيك بأفكار ماكرون بالاستقلالية الاستراتيجية، والتي جرى الحديث عنها في إطار الانفصال الاستراتيجي بين أوروبا والناتو، وكذلك تحالف أوكوس، وبالمثل خلافات المركز والأطراف داخل الاتحاد الأوروبي؟
ماذا عما تطرحه صحيفة "فايننشال تايمز" عن فرضية تفكك الوحدة الغربية بفعل الضغط الاقتصادي، وفقدان الحرب قيمة الصدمة، وانحسار شحن الجمهور بمعطيات الميدان في أوكرانيا مع مرور الوقت؟ وكيف سينعكس ذلك في ما لو أضيفت عناصر أخرى إلى المواجهة، كالصين مثلاً؟
ختاماً، وعلى أي شكل ستنتهي عليه هذه المواجهة؟ وبعيداً عن الرهان على هزيمة روسية من جانب أو تفكك غربي على وقع الضغط الاقتصادي من جانب آخر، لن يتوقف الغرب عن محاولة تدمير روسيا وبوتين، فكما حدث مع هانيبال، ومن بعده جوليان أسانج، لا تغفر الإمبراطورية لأولئك الذين يفضحون نقاط ضعفها أو يكشفون هياكلها الهشة ويحدثون فجوات في أسطورة القدرة المطلقة. فلاديمير بوتين فعل ذلك.