الأبعاد السياسية والاستراتيجية لاتفاق شرم الشيخ ووقف حرب غزة
اتفاق شرم الشيخ لوقف الحرب على غزة ليس مجرد اتفاق تقليدي، لوقف إطلاق نار وتبادل أسرى، وإنما هو يُعدّ نقطة تحول استراتيجية وتعكس معادلة توازن جديدة بين القوة والسياسة.
-
اتفاق شرم الشيخ لوقف الحرب على غزة ليس مجرد اتفاق تقليدي.
لم يكن إعلان اتفاق شرم الشيخ ووقف الحرب في قطاع غزة بين المقاومة الفلسطينية وإسرائيل بوساطة عربية ورعاية أميركية حدثاً سياسياً عابراً في مشهد معقد ومضطرب مرت به المنطقة على مدار عامين كاملين ، مجرد حدث سياسي عابر ، فهذا الاتفاق جاء في توقيت وصلت فيه الحرب ذروتها، وانتفض العالم أجمع في وجه "إسرائيل" منتقداً شرعية استمرار الحرب والقتل واستمرار الإبادة الجماعية والتطهير العرقي، حرب أحدثت في المنطقة على مدار عامين زلزالاً إنسانياً وجيوسياسيا كبيراً واسع الأثر في المنطقة.
منذ الساعات الأولى لهذه الحرب قبل عامين قلت في أولى المقالات التي كتبتها بعد أحداث السابع من أكتوبر أن "إسرائيل" ستُمنى بهزيمة أخلاقية وسياسية وعسكرية غير مسبوقة داخلياً وخارجياً، ولن تحقق أهدافها في غزة ولن تجني سوى القتل والإبادة والتدمير، لكن سيكون لهذه الحرب الوحشية ارتدادات كبيرة جداً، وهذا ما حدث بالفعل، وموازين القوى لم تبقَ على حالها، وانقلب العالم بطريقة معاكسة ضد "إسرائيل" حتى باتت تعيش في عزلة كبيرة غير مسبوقة على مستوى العالم، وشاهدنا خطاب نتنياهو الأخير وحجم المقاطعة الذي تعرض لها خلال كلمته على منصة الأمم المتحدة، ومع امتداد بقعة المقاطعة باتت تتعالى الأصوات الداعية إلى ضرورة وقف الحرب في غزة، وأن وقف إطلاق النار بات ضرورة استراتيجية لا مفر منها .
توقيع اتفاق وقف إطلاق النار وإنهاء الحرب المدمرة على قطاع غزة لا يٌنظر إليه على أنه مجرد صفقة تبادل أو حلول لقضية الأسرى أو أنه مجرد ترتيبات أمنية، وإنما يعد بداية مرحلة جديدة في معادلات القوة والسياسة معاً.
سياق الاتفاق وأبعاده يجب النظر إليها بشمولية أكثر مما شاهدناه على شاشات التلفزة ، إذ إنه جاء بعد حرب طويلة خاضت فيه المقاومة الفلسطينية أشرس حرب، وكذلك "إسرائيل" أطول حرب في تاريخها، وصفت أنها أعقد حرب تخوضها "إسرائيل" في تاريخها السياسي والعسكري، في بيئة تصاعدت فيها حال الانقسام السياسي الداخلي العميق في "إسرائيل"، واجهت معها ضغوطاً دولية كبيرة نتيجة حرب الإبادة الجماعية والتطهير العرقي وسياسة التجويع والحصار، رافق كل ذلك انتفاضة وغضب شعبي ورسمي عارم في عواصم عربية وغربية بسبب استمرار القتل والإبادة والتطهير العرقي.
المقاومة الفلسطينية على مدار عامين كاملين صمدت بشكل أسطوري لا مثيل له، رغم مرارة وقساوة المشهد في غزة طيلة حرب الإبادة، وكانت حريصة على أن تتوقف الحرب لما تحمله من مخاطر استراتيجية على مستقبل القضية الفلسطينية برمتها، وعلى رأسها، وقف مخطط التهجير ومشاريع ريفييرا غزة وغيرها من الخطط التي طُرحت على مدار عامين.
أمام هذه الصور تحركت الدول العربية ومعها تركيا بدعم ودفع سياسي أميركي بضرورة إنهاء الحرب، ولعبت الدول العربية دوراً مباشراً، هيأ الظروف والأجواء لسرعة إنهاء الحرب والتوصل إلى وقف إطلاق نار يعكس ليس فقط توازن قوى، بل أيضاً توازن مصالح سياسية لبعض الأطراف وعلى رأسهم الإدارة الأميركية وحسابات الرئيس ترامب نفسه.
إزاء هذا المشهد ، ثمة أبعاد سياسية جوهرية لهذا الاتفاق تلامس عدة جوانب، ولا سيما إذا ما تحدثنا عن إعادة تثبيت الدور العربي والإقليمي، ولعل أهم ما أبرزه هذا الاتفاق هو عودة الدور العربي ومعه الدور التركي بثقله السياسي الفاعل إلى واجهة المشهد، واستعادة مصر موقعها المحوري في إدارة ملف الصراع الفلسطيني الإسرائيلي تحديداً، وهو ما منحها مجدداً حضوراً سياسياً كوسيط مهم وأساسي، إلى جانب ذلك كرّس الاتفاق دوراً متصاعداً لكل من قطر وتركيا في دور الوساطة، بعد أن كان الدور إنسانياً خلال السنوات الأخيرة الماضية، وهذا أحدث نوعاً من التوازنات السياسية بين الدول في وساطتها ورعايتها للاتفاق.
منح الاتفاق أفقاً سياسياً جديداً لفتح النقاش بجدية حول الحديث عن شكل اليوم التالي في قطاع غزة، وهذه النقاشات لا تقتصر على أبعاد أمنية فحسب، بل تمتد لأول مرة للبحث والنقاش حول إعادة تشكيل البنية السياسية الداخلية الفلسطينية نفسها، وستطرح هذه المسألة جملة نقاشات وأسئلة جادة حول الصيغة التي سيكون عليها اليوم التالي سياسياً في قطاع غزة، ومثل هذه الأسئلة ستقف في صلب أي مسار سياسي يجري الحديث عنه في المستقبل القريب، وسيكون لها أثر بالغ على مستقبل القضية الفلسطينية.
ارتدادات الاتفاق ستطال أيضاً التأثيرات الداخلية في "إسرائيل"، والجميع يعلم ما سيعكسه الاتفاق على حجم الانقسام السياسي الداخلي الذي فاقمته الحرب ، خاصة في ظل وجود اليمين الإسرائيلي المتطرف الذي يرى في إبرام اي اتفاق هزيمة وتنازلاً ويعد نفسه صاحب مشروع إعادة الاستيطان والضم، فيما يدعم تيار المعارضة واليسار في "إسرائيل" هذا المسار باعتباره مخرجاً مهماً من حرب استنزاف باتت تشكل خطراً على جوانب كثيرة في "إسرائيل"، وهذا الانقسام السياسي الداخلي الذي تعيشه "إسرائيل" يعكس هشاشة التركيب البنيوي الداخلي وقد يفتح الباب أمام تغييرات سياسية محتملة في المشهد السياسي هناك .
لعل ما ميّز هذا الاتفاق عن غيره من الاتفاقيات السابقة هو أنه جاء برعاية جماعية من مجموعة من الدول العربية ومعها إدارة ترامب وتركيا لأول مرة، وهذا التطور يعكس تحولاً في طبيعة إدارة الصراع، من احتكار دولة واحدة للوساطة إلى مجموع عربي إسلامي تركي، وهذا يندرج في سياق توزيع الأدوار بين الأطراف الإقليميين والدوليين وهو ما قد يسهم في تعزيز تثبيت الاتفاق أكثر.
استراتيجاً، ثمة أبعاد لهذا الاتفاق، فعلى الصعيد العسكري لم تحقق "إسرائيل" جلّ أهدافها ولم يمنحها نصراً مطلقاً، ولم تمكنها من حسم المعركة ونتائجها لصالحها ، و فشلت في تحرير الأسرى بالقوة العسكرية ، كما فشلت في القضاء التام على حماس والمقاومة، في المقابل، الصمود الذي سطرته المقاومة على مدار عامين كاملين هو نقطة تسجَّل لها أمام هذه القوة والدعم العسكري اللامحدود الذي تلقته "إسرائيل"، وهذه المشهدية تعيد تعريف قواعد الاشتباك والردع من جديد، كما أنها تقلل من احتمالات العودة السريعة إلى التصعيد والحرب مجدداً.
الاتفاق بحد ذاته يضمن التزامات صريحة بفتح المعابر وتسهيل دخول المساعدات وبدء مرحلة من إعادة الإعمار بإشراف دولي عربي مشترك، ومثل هذا الموضوع لا يُنظر إليه بغطاء إنساني، بل يحمل في طياته أبعاداً استراتيجية، إذ يسعى إلى خلق حالة من الاستقرار النسبي في غزة، يقلل من احتمالات عودة الاشتباك مجدداً ويعزز فرص بيئة جديدة من الهدوء.
رعاية الاتفاق بشكل إقليمي أضفت عليه طابعاً مهماً على صعيد ترتيبات ما بعد الحرب، وهذا مؤشر واضح على أن القوى الوسيطة والراعية تسعى، وهي حريصة على ألا يتمدد الصراع أكثر وتكون ارتداداته يصعب السيطرة عليها، وهذا المسار تحديداً يعكس رغبة واضحة في تحويل الصراع من حالة مفتوحة على مصراعيها إلى حالة وجب إنهاؤها، وهذا ما عبر عنه الرئيس الأميركي في تصريحات حديثة له من أن عامل التأثير الأهم على نتنياهو في إقناعه بوقف الحرب هو القناعة الأميركية أمام حالة العزلة التي باتت تعيشها "إسرائيل" من جهة، والقناعة الأخرى التي تولدت لدى الرئيس ترامب شخصياً وقالها لنتنياهو مؤخراً:" نحن لا نستطيع فتح حرب مع العالم كله، وهذه الحرب ذهبت بها بعيداً ويجب أن تتوقف " .
رغم أهمية هذا الاتفاق جوهراً وتوقيتاً، إلا أن هناك مجموعة من التحديات التي تواجهه، فالطريق ليس معبداً وسهلاً، وبوصف أدق، الطريق ليس مفروشاً بالورود، وثمة تحديات كبيرة قد تهدد استقراره وتطبيقه، بدءاً من احتمالية حدوث أي حدث ميداني كبير يشكل خرقاً لوقف إطلاق النار، مروراً بالانقسام الداخلي الفلسطيني الذي قد يعرقل الاتفاق على رؤية واضحة موحدة لمرحلة ما بعد الحرب واليوم التالي كيف سيكون شكله، وصولاً إلى الحسابات السياسية في "إسرائيل" ومعارضتها أي رؤى تتحدث عن تهدئة طويلة وممتدة.
الاتفاق الذي جرى يتجاوز تأثيره حدوده المباشرة، وقد يكون فرصة لإعادة صياغة المشروع الوطني الفلسطيني على أسس جديدة وتتيح المجال لبناء موقف سياسي موحد أكثر.
اتفاق شرم الشيخ لوقف الحرب على غزة ليس مجرد اتفاق تقليدي، لوقف إطلاق نار وتبادل أسرى، وإنما يعد نقطة تحول استراتيجية وتعكس معادلة توازن جديدة بين القوة والسياسة، كما يعكس رغبة عربية دولية في الحضور في مشهدية الصراع وضمان عدم توسعه، وفي ذات الوقت يفتح الباب أمام مرحلة جديدة من التفاوض على قضايا ذات أهمية بالغة، يكون عنوانها إعادة صياغة العلاقات السياسية بين المقاومة ومحيطها الإقليمي.
نجاح اتفاقية شرم الشيخ مرهون بمدى قدرة الأطراف على إدارة مرحلة ما بعد الحرب بحكمة وواقعية، وبحجم الضغط العربي والإقليمي لمنع انهياره تحت أي ظرف، وإذا نجح الأطراف في ذلك، سيعد من أكثر المحطات أهمية في تاريخ الصراع بين المقاومة الفلسطينية و"إسرائيل" في العقود الأخيرة.