اعترافات صهيونية حول أهداف "إسرائيل" من الحرب الحالية
القيادات الصهيونية جاهرت صراحة بأن الهدف من عدوانها الحالي على لبنان لا يقتصر على إبعاد حزب الله عن الحدود مع فلسطين المحتلة ونزع سلاحه، بل يتضمن أيضاً "تصحيح مسار العام 1982".
في الوقت الذي تشن فيه "إسرائيل" حرب الإبادة ضد الشعب الفلسطيني في الضفة وغزة، وفي الوقت الذي تقوم فيه بتوسيع دائرة حربها ضد لبنان، بما يخالف توقعات الكثيرين بأنها لن تقاتل على جبهتين، وفي الوقت الذي تتحضر فيه لحرب إقليمية ضد إيران بدعم من الولايات المتحدة، فإن ما يبرز إلى العلن هو المخططات الصهيونية التقليدية الآيلة إلى تقسيم منطقة الشرق الأوسط والسيطرة عليها، والتي لطالما حاول الإعلام الغربي والصهيوني التعتيم عليها بزعم أنها نابعة من خيالات المؤمنين بنظريات المؤامرة في العالمين العربي والإسلامي، والنابعة من تفكير دوغمائي قومي عربي أو إسلامي والاثنين معاً.
والجدير بالذكر أنه في خضم المعركة الحالية، عادت لتبرز شعارات تعدّ العروبة كذبة والإسلام طارئاً على التاريخ وعصياً على التحديث، وتطرح بدائل قائمة على دعاوى شعوبية تنكر على العرب والمسلمين أي إسهام تاريخي حضاري، وتدعو إلى قيام كيانات أقلوية، إثنية وعشائرية وغيرها ترفع شعار المغرب أولاً ومصر أولاً وليبيا أولاً والإمارات والسعودية وغيرها أولاً.
ومن اللافت أن القيادات الصهيونية جاهرت صراحة بأن الهدف من عدوانها الحالي على لبنان لا يقتصر على إبعاد حزب الله عن الحدود مع فلسطين المحتلة ونزع سلاحه، بل يتضمن أيضاً "تصحيح مسار العام 1982". فإلى ماذا كان يهدف هذا المسار؟
المشروع الصهيوني للسيطرة على المنطقة
في العام 1982، وخلال الاجتياح الإسرائيلي للبنان، أصدرت الدوائر الصهيونية -الأميركية، وعلى رأسها المحافظون الجدد، الذين كانوا قد أصبحوا نافذين جداً في دوائر القرار الأميركية منذ اغتيال جون كنيدي في العام 1963، وثيقة تنادي بتقسيم لبنان إلى كيانات طائفية تمهيداً لتقسيم كامل منطقة المشرق بما فيها سوريا والعراق حتى تصبح هذه المنطقة مجالاً حيوياً لـ"إسرائيل" فلا تبقى أقلية يهودية في محيط عربي، بل تصبح أكبر أقلية في موزاييك من الأقليات.
بالتوازي مع وثيقة المحافظين الجدد، أصدر عوديد ينون في شباط/ فبراير من العام 1982، أي قبل أربعة أشهر من الغزو الإسرائيلي للبنان مقالة نشرت في المجلة العبرية "كيفونيم" بعنوان "استراتيجية إسرائيل في الثمانينيات." والجدير ذكره أن عوديد يونين دبلوماسي سابق في وزارة الخارجية الإسرائيلية، وقد عمل لفترة مستشاراً لوزير الدفاع الإسرائيلي الأسبق آرييل شارون الذي تولى أيضاً منصب رئيس الوزراء بين العامين 2002 و2006.
هذه المقالة تم العمل ببنودها من قبل بنيامين نتنياهو بعد توليه رئاسة الوزارة الإسرائيلية لأول مرة في العام 1996 بالتوازي مع إصدار المحافظين الجدد وثيقتهم السرية الثانية بعنوان "كلين بريك" أو القطيعة التامة، والتي دعت إلى فرض الهيمنة الأميركية المطلقة في العالم في مواجهة قوتين صاعدتين آنذاك هما روسيا والصين، كما دعت أيضاً إلى وقف عملية السلام لأن المنطقة ستكون مقبلة على تغيير في خريطتها الجيوسياسية مع تقسيم المشرق العربي إلى كيانات طائفية.
الوثيقة نفسها أعيد نشرها في العام 2007، بعد أشهر قليلة على فشل العدوان الإسرائيلي على لبنان، علماً أن الوثيقة شكلت برنامج عمل تمت ترجمة بنوده في "الربيع العربي" الذي اندلع في العام 2011، والذي شهد حرباً غربية وإسرائيلية ضروساً ضد سوريا، ليعود الحديث عن المقالة بعد بدء العدوان الإسرائيلي الأخير على لبنان لتظهر فيها بوضوح فكرة تجزئة الدول العربية إلى كيانات صغيرة، مع وجود ترابط وثيق بين هذا المشروع وبرنامج المحافظين الجدد لتحويل "إسرائيل" إلى قوة إمبريالية عالمية رديفة للولايات المتحدة.
عالم عربي إسلامي مشرذم!
ويرى الكاتب بأن البشرية تقف على أعتاب "حقبة تختلف نوعياً عن العصور السابقة، ذات طابع جديد تماماً، لهذا فمن الضروري تحديد تصور للعالم واستراتيجية ملموسة وفقاً للظروف الجديدة سيعتمد عليها وجود الدولة اليهودية وازدهارها واستقرارها." ويضيف الكاتب أن قوة الأسلحة، التقليدية أو النووية، وكميتها، ودقتها، ونوعيتها، سوف تهز العالم وتغيّره بشكل جذري بما يجعل لزاماً على القادة الإسرائيليين أن يعدّوا أنفسهم لمواجهة هذا التحدي. ويرى الكاتب أن التفوّق العسكري الإسرائيلي يجب أن يدوم حتى لا يشكل العالم العربي -الإسلامي تهديداً لـ"إسرائيل"، وهذا ما يزيد من قلق الصهاينة حالياً من تنامي القدرات العسكرية الإيرانية التي يمكن أن تتحوّل إلى قوة نووية متى شاءت.
ويشير الكاتب إلى أن العالم الإسلامي "بأقلياته العرقية، وانقساماته، وأزماته الداخلية التي تنخر فيه أكان في لبنان، أو إيران، أو سوريا، غير قادر على حل مشكلاته الأساسية، وبالتالي لا يمكن أن يشكل تهديداً حقيقياً لإسرائيل." لذا، فهو يعتقد بأن الشرق الأوسط سيكون عرضة للتقسيم وفقاً لمكوناته العرقية والإثنية.
ويرى أن المشرق العربي هو الأكثر تمزقاً إذ "لا تختلف سوريا عن لبنان إلا بنظامها العسكري القوي. ولكنه مسرح لحرب أهلية حقيقية بين أغلبية السكان السُنّة والأقلية الشيعية العلوية."
كما يتحدث عن العراق ذي الغالبية الشيعية والأقليتين السنية والكردية، فيما يقول إن كل دول الخليج بما فيها المملكة العربية السعودية مبنية على الرمال التي تحتوي فقط على النفط. ويشير إلى حقيقة أن سكان دول الخليح العربية يشكلون بمعظمهم من أقلية من السكان الأصليين وأغلبية من الوافدين الذين سيطالبون في يوم من الأيام بحقوقهم السياسية والاجتماعية بما يطيح حكم العرب لصالح مجتمعات كوزموبوليتية.
ويشير الكاتب إلى أن الكويتيين يشكلون ربع السكان فقط، وفي البحرين يشكل الشيعة الأغلبية، لكنهم محرومون من السلطة. وفي دولة الإمارات العربية المتحدة، يشكل الشيعة الأغلبية لكن السنة يحتفظون بالسلطة. وينطبق الشيء نفسه على سلطنة عمان، واليمن.
أما في المملكة العربية السعودية، فنصف السكان من الأجانب (المصريين واليمنيين) وهناك أقلية سعودية هي التي تتولى السلطة. وفي الأردن فإن غالبية السكان من الفلسطينيين فيما أقلية منهم من الأردنيين.
وينتقل الكاتب للحديث عن إيران مشيراً إلى أنها مكوّنة من مجموعات عرقية محتلفة فارسية وتركية وكردية وعربية وباشتونية وبلوشية وغيرها، فيما توجد في باكستان أقلية شيعية كبيرة جداً.
تصور صهيوني للشرق الأوسط
وينتقد الكاتب "ضغط" الإدارات الأميركية على "إسرائيل" لتوقيع سلام مع العرب ويقول "إن سياسة السلام تحت ضغط من الولايات المتحدة، تستبعد فرصة تنظيم إسرائيل لشؤون المنطقة بما يتلاءم مع أمنها،" معتبراً أنه منذ العام 1967، أجبرت الولايات المتحدة حكومات إسرائيل المتعاقبة على اعتماد سياسات "ضيقة على حساب أهدافها الاستراتيجية، ما جعل إسرائيل غير قادرة على وضع خطة للتعامل مع العرب" في المناطق التي تم احتلالها في الحرب بما يجنب "إسرائيل" الصراع مع الفلسطينيين في الضفة الغربية وغزة، ملمّحاً إلى أنه كان بالإمكان ترحيلهم إلى البلدان المجاورة، ولافتاً إلى أن هذا "كان خطأ إسرائيل الاستراتيجي الكبير في أعقاب حرب الأيام الستة،" ومعتبراً أنه بعد العام 1982 فتح المجال أمام "تصحيح هذا الخطأ التاريخي، وإلا فسنختفي كدولة."
ويشير الكاتب إلى ضرورة استغلال ظروف التحوّلات الإقليمية "لاستعادة سيناء بمساحتها الشاسعة ومواردها النفطية" عبر وقف العمل باتفاقيات "كامب ديفيد" التي تمنع "إسرائيل" من تحقيق هذا الهدف. ويرى الكاتب أنه بعد "كامب ديفيد" اهتزت صورة مصر وتراجعت قوتها إلى ما دون الخمسين في المئة بالمقارنة مع القوة العسكرية لـ"إسرائيل" "وأن مصر، في تكوينها الداخلي الحالي، أصبحت في حالة احتضار بالفعل، بل وأكثر من ذلك، إذا أخذنا في الاعتبار الانقسام المتزايد بين المسيحيين والمسلمين، فإن هذا سيسمح بتفكيك مصر وتقسيمها إلى وحدات جغرافية منفصلة، وهو ما يشكل الهدف السياسي لإسرائيل على جبهتها الغربية."
ويقول الكاتب إنه إذا تفككت مصر، فإن دولاً مثل ليبيا والسودان، وحتى الدول الأبعد، لن تتمكن من البقاء بشكلها الحالي، وسوف ترافق مصر في سقوطها وتفككها." ويتحدث الكاتب الصهيوني عن إقامة دولة قبطية مسيحية في صعيد مصر، وعدد آخر من الدول المسلمة الضعيفة، ذات سلطات محدودة للغاية، بدلاً من الحكومة المركزية الحالية."
وبالنسبة إلى الجبهة الشرقية، يدعو الكاتب الصهويني إلى تقسيم لبنان إلى خمسة كنتونات، وطرح سيناريوهات مماثلة في سوريا والعراق والجزيرة العربية واليمن.
وهو يؤكد أن "تفكك سوريا والعراق إلى مقاطعات عرقية أو دينية، مثل لبنان، يشكل هدفاً طويل الأمد ذا أولوية بالنسبة إلى "إسرائيل" على جبهتها الشرقية، ولو حدث ذلك عبر توجيه ضربة عسكرية إلى هذه البلدان. ويقر الكاتب الصهيوني بأن "إسرائيل" تسعى لتقسيم سوريا إلى عدة دويلات، "بحيث يصبح الساحل دولة شيعية علوية؛ ومنطقة حلب دولة سنية؛ وفي دمشق دولة سنية أخرى معادية لجارتها الشمالية؛ وسيشكل الدروز دولتهم الخاصة، والتي ربما ستمتد إلى جولاننا، وعلى كل حال في حوران وشمال الأردن. وهذه الدولة ستضمن السلام والأمن في المنطقة على المدى الطويل."
أما العراق، فيشكل موقعاً رئيسياً للعمليات الإسرائيلية. إن تفكيك هذا البلد يهمنا أكثر من تفكيك سوريا. ويرى الكاتب أن الحرب العراقية- الإيرانية أدت إلى تفكك الدولة العراقية، معتبراً أن أي صراع داخل العالم العربي يفيدنا على المدى القصير، ويعجّل باللحظة التي ينقسم فيها العراق وفقاً لطوائفه الدينية والمجموعات العرقية والدينية، بالطريقة نفسها التي كانت موجودة في سوريا خلال فترة الهيمنة العثمانية، إذ سيتم تشكيل ثلاث دويلات حول المدن الرئيسية الثلاث: البصرة وبغداد والموصل بحيث تنفصل المناطق الشيعية الجنوبية عن السنة والكرد في الشمال.
ويأمل الكاتب في أن يؤدي الصراع الإيراني- العراقي الحالي إلى تطرف هذا الاستقطاب. شبه الجزيرة العربية برمتها مهددة بالتفكك تحت وطأة الضغوط الخارجية والداخلية. وهذه العملية حتمية بشكل خاص في المملكة العربية السعودية، سواء حافظت على قوتها الاقتصادية المعتمدة على النفط أو تراجعت. إن البنية السياسية الحالية للبلاد تنذر بالصراعات الداخلية والتفكك النهائي. كما يشكل الأردن هدفاً استراتيجياً إذ ما إن ينتهي حكم الأسرة الهاشمية فإنه بالإمكان إقامة وطن فلسطيني بديل لا يشكل تهديداً لـ"إسرائيل".
ويتحدث الكاتب عن السيطرة الكاملة على الضفة الغربية وغزة و"تفريق السكان الفلسطينيين" معتبراً أن "يهودا والسامرة والجليل هي ضماناتنا الوحيدة للوجود القومي؛ وإذا لم نثبت أنفسنا لنكون الأغلبية في المناطق الجبلية فلن نحكم البلاد؛ سنعيش هناك مثل الصليبيين، الذين فقدوا هذا البلد بعد وجود دام لقرنين."
ويختم الكاتب بالتأكيد أن تحقيق أهداف "إسرائيل" على الجبهة الشرقية يعتمد على تحقيق هذه الاستراتيجية بتهويد الأرض، إضافة إلى التحوّل في بنية الكيان السياسية والاقتصادية والذي سيشكل مفتاح التحوّل الكامل الذي سيسمح لـ"إسرائيل" بفرض واقع في الشرق الأوسط يضمن بقاءها وأمنها.