أين ذهبت الجماهير العربية؟

أين الأحزاب السياسية والنقابات العربية؟ كم مؤتمراً عقدت النقابات الطبية لدعم القطاع الصحي في غزّة، والذي خسر أكثر من 90% من إمكاناته؟

0:00
  • نجح القمع الرسمي العربي في لجم الحراك الشعبي الفعّال.
    نجح القمع الرسمي العربي في لجم الحراك الشعبي الفعّال.

عندما ارتكب العدو الصهيوني مجزرة المستشفى المعمداني في غزّة، هبت الجماهير العربية إلى الشوارع معلنة احتجاجها، ومطالِبةً بقطع جميع العلاقات الدبلوماسية والتجارية بالعدو وداعميه.

في العاصمة الأردنية عمّان، رأيت آلاف الشابات والشبان يقتحمون الطوق الأمني، تحت وابل من قنابل الغاز، ليصلوا إلى سفارة الكيان الصهيوني، وحاول بعضهم إحراقها. تعرض المئات للضرب بالهراوات وللاعتقال، لكن ذلك لم يُثنهم عن هدفهم، فكانت ليلة مجيدة من ليالي دعم المقاومة، دفعت الناطق باسم حركة المقاومة الإسلامية (حماس) إلى الإشادة بدور الجماهير العربية، وخصوصاً الأردنية.

تصاعدت حملات القمع والاعتقال بحق الناشطين والمحتجين، ونالت بعضَهم أحكامٌ بالسَّجن والغرامة. تركزت الحملات ضد الشبان والإعلاميين وناشطي وسائل التواصل الاجتماعي، وتم تفعيل قوانين الجرائم الإلكترونية بحقهم.

تحت وطأة هذا القمع، والمطاردة في الأرزاق، بدأ زخم الحراك الشعبي العربي بالتراجع، لكن نهوض الجماهير في الدول الغربية، وخصوصاً طلاب الجامعات، استقطب الاهتمام، على رغم بروز أصوات تتساءل عن دور طلاب الجامعات العربية في هذا الحراك الطلابي العالمي. تراجعت الاحتجاجات الطلابية والشعبية في الغرب، بسبب ما تعرضت له من قمع يشابه أو يتفوق على ما حدث في البلدان العربية.

مسيرات احتجاجية روتينية في هذه المدينة أو تلك، ووقفات احتجاجية في الساحات العربية لا يتجاوز حضورها العشرات. المكان نفسه، الذي شهد المواجهات ليلة مجزرة المعمداني، لم يكن فيه سوى 40 شخصاً ليلة مجزرة خان يونس، بحضور أكثر من 200 رجل أمن. حراك رتيب روتيني يرفع الشعارات والخطب والمطالب نفسها، والتي أصبحت تشكل سقفاً مقبولاً لا يرهق المحتجين ولا يزعج الحكومات. في ظل هذه الحركة الرتيبة، خرجت الأنظمة العربية من مربع القلق، وعادت إلى ممارسة نشاطاتها المعتادة، بدءاً بالاتفاقيات والمناورات مع العدو، وانتهاء بالمهرجانات والاحتفالات، من دون أن تتخلى عن بيانات جوفاء تحمّل العدو مسؤولية المجازر التي تحدث في غزّة.

ماذا يمكننا أن نفعل أكثر من ذلك؟ سؤال يعبر عن حالة العجز التي تنتاب النخب والجماهير العربية. في عمّان، أعلنت وزارة الخارجية الأردنية افتتاح مكتب لحلف الناتو، معدِّدةً، في بيانها، فوائدَ هذا المكتب بما فيها العمل على مكافحة الإرهاب، من دون أن توضح هل هو الإرهاب الذي ترتكبه العصابات الصهيونية في غزّة، أم "الإرهاب"، الذي يراه حلف الناتو ممثَّلاً بقوى المقاومة والشعوب الرافضة للهيمنة الاستعمارية.

لم يترك لنا حلف الناتو المجال للبحث عن إجابة. ففي صباح اليوم التالي، جاءت الطائرات المحملة بقذائف الناتو لتعطينا الإجابة من مدينة خان يونس، ومخيم الشاطئ. حتى لحظة كتابة هذا المقال، بلغ عدد شهداء مجزرة خان يونس 90 شهيداً و300 جريح، وضحايا مجزرة مخيم الشاطئ 22 جريحاً.

رجال الدفاع المدني، الذين هبّوا لإنقاذ المصابين، سقطوا بين شهيد وجريح. نتابع الصور في القنوات الإخبارية. نتوجع ونشتم ونحوقل، لكننا لا نفعل شيئاً.  

نجح القمع الرسمي العربي في لجم الحراك الشعبي الفعّال، وتحولت أخبار غزّة إلى ما يشبه فيلم الرعب الذي تتحاشى الأغلبية متابعته. النخب السياسية والثقافية العربية غارقة في معارك دونكشوتية، تعلق بالفن ومهرجاناته، والرياضة وبطولاتها. حتى سلطة رام الله لم تتوانَ عن تنظيم مهرجان إبداعي للرقص الحديث.

البيانات خجولة، تكرر الجمل نفسها، والتي لا يجرؤ أي منها على دعوة الجماهير إلى النزول إلى الشارع والتعبير عن دعمها للمقاومة. أغلبية قنوات الإعلام الرسمي العربي، والقنوات الخاصة المرتبطة بالأنظمة، حولت الحرب إلى مهرجان تصف فيه دقائق الأحداث، وتفسح المجال لكل متنطح لكيل الاتهامات للمقاومة من باب الرأي والرأي الآخر. غاب التحريض عن قنوات اشتهرت به في إبان "الربيع العربي" المشؤوم.

لن ألوم السلطات الرسمية العربية، فلقد عرفناها منذ أن زرعها الاستعمار لتحكم أشلاء وطننا الذي قسمته قرارات الاستعمار نفسه. هذه السلطات لم تفعل لشعوبها شيئاً سوى الإفقار والقمع ومطاردة المناضلين، وفاءً منها للمستعمرين، وتأكيداً لقيامها بالدور المنوط بها. اللوم، كل اللوم، يقع على النخب السياسية والثقافية التي لم تتمكن من الارتقاء إلى مستوى الفعل المقاوم، ولم تستطع التخلي عن حياة الرفاهية والدعة التي ورثتها من زمن الهزيمة.

أين الأحزاب السياسية والنقابات العربية؟ كم مؤتمراً عقدت النقابات الطبية لدعم القطاع الصحي في غزّة، والذي خسر أكثر من 90% من إمكاناته؟

كم مؤتمراً عقدت نقابات المحامين لدعم القضية الفلسطينية المطروحة اليوم على موائد القانون الدولي؟ ونقابات المهندسين والمقاولين ماذا فعلت لقطاع خسر أكثر من 75% من بنيته التحتية، ونحو 60% من منازله؟ هل تكفي التبرعات، أم أن النقابات والأحزاب السياسية تحولت إلى جمعيات خيرية؟

علينا، كجماهير ومثقفين وسياسيين، الاعتراف بالتقصير الشديد تجاه أهلنا ومقاومتنا في غزّة وكل الجبهات المساندة، كخطوة أولى نحو الانخراط في الفعل المقاوم بكل إمكاناتنا، وتقديم كل التضحيات المطلوبة، والتي مهما عظمت فإنها تبقى ضئيلة مقارنة بما يقدمه الصامدون والمقاومون في جميع الجبهات.