أوراسيا..حلبة الشراكات الإستراتيجية المستجدة

يكون من المنطق وفي ظل التحوّلات العالمية الجديدة التي بدأت من الشرق الأوسط، وترافقت مع وصول إدارة جديدة إلى البيت الأبيض أن نضع ما يجري  ضمن تفاهمات فرضتها التحوّلات العالمية والصراع لبناء عالم جديد متعدد القطبية. 

  • شهد الأسبوع الفائت توقيع ثلاث اتفاقيات شراكة استراتيجية في منطقة أوراسيا.
     توقيع اتفاقيات شراكة استراتيجية في منطقة أوراسيا.

شهد الأسبوع الفائت توقيع ثلاث اتفاقيات شراكة استراتيجية في منطقة أوراسيا يمكن تصنيفها تحت عنوان التحوّلات التاريخية التي يشهدها العالم، والتي ستترك آثارها الكبيرة على كل الصعد الجيوسياسية والجيواقتصادية والنفوذ والسيطرة و التموضع على الخريطة العالمية، وتعلن انتقال مراكز الصراع والتسويات إلى منطقة جديدة، بعيداً من مراكز الثقل والمواجهة التقليدية التي شهدها العالم طوال قرن من الزمن، وليكون العام 2025 عام التحوّلات الكبرى على الصعيد العالمي، وهذه الاتفاقيات هي:

1- اتفاقية الشراكة البريطانية - الأوكرانية.

2- اتفاقية الشراكة الأميركية - الأرمينية. 

3- اتفاقية الشراكة الروسية- الإيرانية.

سنكتفي في هذا المقال بتسليط الضوء على الاتفاقيتين الموقّعتين بين كل من بريطانيا وأوكرانيا، والولايات المتحدة وأرمينيا، باعتبارهما جاءتا في سياق مفاجئ ومتسارع على عكس اتفاقية الشراكة بين روسيا وإيران التي يجري الإعداد لها بشكل علني منذ مدة طويلة.

أولاً؛ اتفاقية الشراكة البريطانية – الأوكرانية: 

 من دون ضجيج إعلامي مسبق، فوجئ العالم بخطوة استراتيجية بريطانية متقدّمة على الساحة الأوروبية والصعيد العالمي تمثلت بتوقيع اتفاقية شراكة استراتيجية بين المملكة المتحدة وأوكرانيا يوم الخميس في 16 كانون الثاني/يناير الحالي مدتها 100 عام، تحت عنوان "الشراكة المئوية "، وذلك خلال الزيارة المفاجئة التي قام بها رئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر إلى أوكرانيا.

وتهدف الاتفاقية، حسب المعلن منها، إلى تعزيز التعاون الدفاعي بين البلدين، ووفقاً لصحيفة "فايننشال تايمز" البريطانية، فإن الاتفاقية ستسمح لبريطانيا باستخراج المعادن على الأراضي الأوكرانية، وفي المقابل، ستقوم بريطانيا بتوسيع برنامج تدريب العسكريين الأوكرانيين وتعزيز التعاون في مجال الأسلحة بعيدة المدى، واستثمارات في الإنتاج العسكري الأوكراني، بما في ذلك الطائرات من دون طيار والمدفعية والتبادل التقني، بينما قال الرئيس الأوكراني زيلينسكي إن الاتفاقية تتضمّن جزءاً مغلقاً وسرياً، وستحصل بلاده أيضاً على 6.6 مليار دولار من المساعدات العسكرية هذا العام، وعلى أكثر من 3 مليارات دولار سنوياً كدعم إلزامي طويل الأجل.

يمكن قراءة توقيت الخطوة البريطانية وتحليلها من جوانب عديدة، فقد جاءت قبل أيام من دخول الرئيس الأميركي المنتخب الجمهوري دونالد ترامب إلى البيت الأبيض وتولي مهامه، وهو الذي بنى مواقف حملته الانتخابية على إنهاء الصراع في أوكرانيا عبر التفاوض، ثم جرى تأكيد ذلك على لسان مرشحه لوزارة الخارجية ماركو روبيو وآخرين من فريقه في الإدارة قبل أن يعلن بعد تنصيبه عن رغبته في لقاء الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في القريب العاجل.

وعليه، فإن بريطانيا سعت للقيام بخطوة استباقية لتحقيق مصالح استراتيجية لها في شرق أوروبا قبيل إطلاق مفاوضات وقف إطلاق النار، وهو ما سيمكّنها مرحلياً من ممارسة الضغط على موسكو، ومحاولة حجز حصة جيوسياسية واقتصادية وطاقوية لها على المدى البعيد، قبل إسدال الستار على خرائط السيطرة والنفوذ في شرق أوروبا. ومن جهة أخرى، فإنه ليس مستبعداً أن تكون بريطانيا راغبة في الضغط على إدارة ترامب الجديدة التي لا يبدو أنها تقيم اعتباراً لحلفائها، وتسعى للتمدد على حسابهم لبناء خلفية جيوسياسية واقتصادية في المحيط الأميركي تشمل كندا وغرينلاند امتداداً إلى أميركا الوسطى، وهو ما تفسّره تصريحات رئيس الوزراء البريطاني سارتر حول إمكانية إرسال قوات حفظ سلام بريطانية إلى أوكرانيا، في موقف قد يسبّب حرجاً لواشنطن التي ستكون مضطرة للتدخل لصالح هذه القوات الحليفة في حال تعرضها لهجوم روسي في محاولة من سارتر لعرقلة توجهات واشنطن للانكفاء الشرق الأوروبي باتجاه الحديقة الخلفية للولايات المتحدة، وهو ما يقلق لندن التي بنت استراتيجيتها طوال عقود على العداء مع موسكو من جهة، وعلى تبعية كندا لتاجها البريطاني.

وفي أحسن الأحوال، فإن التوجّه البريطاني يشكّل استعداداً استباقياً لاستبدال النفوذ البريطاني الضائع الذي يفرضه التاج الملكي في كندا غرباً عبر المحيط الأطلسي بآخر في أوكرانيا شرقاً متى ما نفذ ترامب طموحه بضم كندا إلى الولايات المتحدة.

ثانياً؛ اتفاقية الشراكة الأميركية – الأرمينية: 

في 14 كانون الثاني/يناير الحالي، قبيل يومين من توقيع اتفاقية الشراكة البريطانية-الأوكرانية، شهدت العاصمة الأميركية واشنطن حدثاً آخر لا يقل أهمية تمثل بتوقيع الولايات المتحدة الأميركية ودولة أرمينيا على اتفاقية شراكة استراتيجية بينهما. وقد شكّل هذا الحدث أيضاً مفاجأة استراتيجية على صعيد التحالفات والتموضعات الجديدة التي يشهدها العالم بتسارع كبير.

وبحسب تصريحات وزير الخارجية الأرميني آرارات ميزوريان، فإن الاتفاقية تضع إطاراً قوياً يشمل مجموعة واسعة من المجالات، بما في ذلك تعزيز الروابط الاقتصادية والطاقة، وتوسيع قنوات الاتصال، وتعميق التعاون الدفاعي والأمني، وتقوية المؤسسات الديمقراطية، وتعزيز العدالة وسيادة القانون، وتطوير الابتكار والتكنولوجيا المتقدمة، بالإضافة إلى تعزيز العلاقات بين الشعوب، وضرورة لا بد منها للتعامل مع المشهد الجيوسياسي المعقّد.

في المقابل، أكد وزير الخارجية الأميركي السابق أنتوني بلينكن ما قاله نظيره الأرميني، وخصوصاً ما يتعلق بالاقتصاد والطاقة، و أضاف إليه التزام بلاده بسيادة أوكرانيا وحماية حدودها واستقلالها، واستعداد واشنطن لمساعدة أرمينيا في مجال التكنولوجيا النووية السلمية، ورحّب باستعداد أرمينيا للانضمام إلى التحالف الدولي لمحاربة "داعش"، وخصوصاً في الشرق الأوسط. وأكد الجانبان أهمية الاتفاقية لتحقيق الاستقرار في جنوب القوقاز.

لا شك أن اتفاقية الشراكة الإستراتيجية الأميركية-الأرمينية ستترك أبعادها وآثارها الجيوسياسية والجيواقتصادية في قلب أوراسيا والقوقاز، حيث التناقس العالمي على أشده في تلك المنطقة التي تشهد زحمة مشاريع متنافسة لخطوط النقل والطاقة والربط البري و البحري بين الشرق والغرب و الشمال والجنوب، وحيث الصراع العسكري والحدودي الأرميني -الأذربيجاني يتجدد.

تاريخياً، لطالما كانت أرمينيا حليفاً استراتيجياً لكل من روسيا وإيران، وعاملاً جغرافياً للربط والتواصل بينهما، والفصل بين منافستيهما (أذربيجان وتركيا) حليفتَي واشنطن التقليديتين، غير أن هزيمة أرمينيا في الحربين الأخيرتين مع أذربيجان وبدعم من تركيا دفعت برئيس وزرائها نيكول باشينيان وبضغط من اللوبي الأرمني في الولايات المتحدة إلى البحث عن تنويع تحالفات بلاده باتجاه الغرب وخصوصاً باتجاه باريس وواشنطن لتعزيز قوتها ووقف مسلسل الهزائم أمام أذربيجان، والذي بات يتهدد جغرافيتها وحدودها، وخصوصاً بعد أنباء تسرّبت عن تهديدات أذربيجانية بجولة جديدة من الصراع تهدف إلى السيطرة على ممر بري "زينغزور" نحو إقليمها الغربي.

وبالرغم من أن أرمينيا باتت تطرح نفسها كدولة متعددة الشراكات بين الشرق والغرب، مع الولايات المتحدة وفرنسا، وروسيا وإيران والهند، وتقدم نفسها كداعية سلام مع أذربيجان وتركيا، فإن ذلك كله لا يغير من حقيقة خلط الأوراق في المنطقة التي ستسببها اتفاقية الشراكة الجديدة مع واشنطن، ولسان حال الأميركي يقول لبقية اللاعبين "لقد بتنا في قلب أوراسيا على حدود الجميع، ولا حرب ولا سلام من دون واشنطن، كما أنه لا مشاريع طاقة  لا ممرات يمكنها الإفلات من نفوذنا"، ولعلّ وزير الخارجية الأميركي بلينكن الذي أعرب عن ترحيبه بأن تكون أرمينيا جزءاً من ممر شمالـ ـ جنوب الذي يربط إيران بروسيا ومعهما الهند بطبيعة الحال، وعن ترحيبه أيضاً بأن تكون أرمينيا جزءاً من خطوط الطاقة من أذربيجان و البحر الأسود إلى تركيا وأوروبا، لعلّه أراد القول لهم وللصين أيضاً التي تبحث عن ممر لمشروعها (الحزام والطريق) "تعالوا وتفاوضوا معنا، ولا خيار لكم غير ذلك". ولا يقتصر الأمر على هذا الحد فأرمينيا التي تسعى أيضاً للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي تمتلك حدوداً مع جورجيا التي جمّدت انضمامها إلى الاتحاد وتتعرّض لضغوط متزايدة من الغرب.

امتعاض الدول اللاعبة والمحيطة ظهر سريعاً، وعلى الأخص روسيا التي سارع وزير خارجيتها لافروف لتخيير أرمينيا ما بين العضوية في الاتحاد الاقتصادي الأوراسي الذي تنتمي إليه، وبين عضوية الاتحاد الأوروبي الذي تطمح للدخول إليه، وذلك لاستحالة الجمع بينهما، وهو ما رفضته أرمينيا واحتجت عليه مؤكدة عدم التعارض بينهما، بينما تنظر أذربيجان وحليفتها تركيا، وكذلك إيران حليفة أرمينيا التقليدية بقلق إلى التموضع الأرميني الجديد، وليس مستبعداً أن تكون هذه النقلة الأميركية الجديدة على رقعة الشطرنج الأوراسية عامل تلاقٍ جديداً بين دول إقليمية متضررة لطالما كانت تتنافس فيما بينها، ونقصد بها إيران وأذربيجان وتركيا وروسيا.

في الختام؛ سيكون من المنطق وفي ظل التحوّلات العالمية الجديدة التي بدأت من سوريا والشرق الأوسط، وترافقت مع وصول إدارة جديدة إلى البيت الأبيض بقيادة ترامب وفريقه أن نضع ما يجري من اتفاقيات شراكة استراتيجية جديدة متسارعة كالاتفافية البريطانيةـالأوكرانية، والاتفاقية الأميركيةـالأرمينية، وبعدهما اتفاقية الشراكة الإستراتيجية الروسيةـالإيرانية، وقبل ذلك كله، اتفاقية الشراكة بين الصين وإيران، أن يكون كل ذلك ضمن تفاهمات فرضتها تلك التحوّلات العالمية والصراع لبناء عالم جديد متعدد القطبية.

وهذا احتمال تشير إليه معطيات عديدة لعلّ أهمّها التصريحات التي أطلقها الرئيس الأميركي ترامب في خطابه الأول بعد التنصيب، والتي أكد فيها رغبته في السلام ومنع الحروب والتفرغ لبناء الولايات المتحدة من الداخل، غير أن هذا الاحتمال يبقى مهتزاً إذا ما عدنا إلى العقل الغربي، وخصوصاً الأميركي الذي عبّر عنه بريجنسكي يوماً ما في كتابه "رقعة الشطرنج الكبرى" والذي شدّد فيه على خيار تفجير أوراسيا كشرط لا بدّ منه لاستمرار الهيمنة الأميركية على العالم.