أميركا في المنطقة والإقليم.. بين الماضي والحاضر

الرئيس الأميركي جو بايدن الذي يخطط لزيارة المنطقة منتصف شهر تموز/يوليو، يجد أن العراقيل توضع في وجه مخططاته لإعلان "ناتو عربي"؛ هذه العراقيل تضعها دول صغرى تابعة تاريخياً، مثل الإمارات والسعودية.

  • مآل التحركات العربية الإقليمية في المنطقة: حرب أو تحالفات؟
    العراقيل بوجه الولايات المتحدة لا تضعها دول بحجم روسيا أو الصين، ولكنْ دول صغرى تابعة تاريخياً

"الآن تعني الأمس". بهذه الجملة، خاطب الرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما نظيره المصري حسني مبارك في ذروة أحداث النسخة المصرية من "الربيع العربي". لم تمضِ 48 ساعة حتى كان الرئيس المصري يتنحى عن منصبه الرئاسي. خلال أسبوعين تقريباً، سقط حاكم أكبر دولة عربية، وثالث أكبر دولة أفريقية من حيث عدد السكان، في إشارةٍ إلى حجم السطوة الأميركية على العالم في تلك اللحظة التاريخية. 

لكنَّ اليوم لا يشبه البارحة، والرئيس الأميركي جو بايدن الذي يخطط لزيارة المنطقة منتصف شهر تموز/يوليو، يجد العراقيل توضع في وجه مخططاته لإعلان حلف عسكري شرق أوسطي أو "ناتو عربي"، كما أسماه ملك الأردن عبد الله الثاني. هذه العراقيل لا تضعها دول بحجم روسيا أو الصين، ولكنْ دول صغرى تابعة تاريخياً، مثل الإمارات والسعودية.

يمثل الحلف المنشود حاجة أميركية – إسرائيلية في المواجهة مع إيران أولاً، ومع محور المقاومة وحلفائه ثانياً، وهو ما عبر عنه الرئيس بايدن صراحةً في أكثر من تصريح، حين قال إنّ الزيارة تتعلق بمباحثات حول الأمن الإقليمي، وإنَّ الأمر أكبر من النفط وقضايا الطاقة، ونفى وجود لقاء ثنائي مع ولي العهد السعودي محمد بن سلمان، وأكّد وجود قمة تبحث الأمن الإقليمي في مواجهة إيران، مع إشارةٍ في واحدة من المقابلات إلى "الأمن الوطني الإسرائيلي".

تحتاج أميركا إلى هذا الحلف لزيادة الضغط على إيران في مسألة الاتفاق النووي، وخصوصاً أنَّ محادثات فيينا وصلت إلى طريق مسدود. تعلم "إسرائيل" أن التهديد الرئيس لكيانها يأتي من محور المقاومة. لذلك، فهي معنية بأي خطوة تزيد الضغط السياسي والعسكري على هذا المحور.

الأردن الذي يعاني أزمات سياسية واقتصادية خانقة وجد في المشروع الأميركي فرصة سانحة لاستعادة جزء من دوره السياسي ومقايضة جزء آخر بالمال، ما يتيح له تجاوز العقبات الاقتصادية التي أدت إلى اهتزاز في تركيبة الحكم. 

وفي سابقة هي الأولى من نوعها، خرج الخلاف بين الملك وشقيقه إلى العلن. السياق الذي أعلن فيه الأمير حمزة تمرده، كان الاحتجاج على سوء الأوضاع الاقتصادية وانتشار الفساد، ما أكسب حركته زخماً شعبياً معقولاً.

انتهت الأزمة مبدئياً بوضع الأمير حمزة تحت نوع من الإقامة الجبرية، لكنَّها أظهرت حجم الغضب الشعبي من الأوضاع الاقتصادية في البلاد. وإذا أضفنا إلى ما سبق تراجع الدور السياسي الأردني بعد توقيع اتفاقيات التطبيع العربي الإسرائيلي، ما قلّص مساحة المناورة السياسية التي اعتاد العرش الهاشمي التحرك فيها للحصول على دعم اقتصادي، سواء من الدول العربية أو الأجنبية، نستطيع أن نفهم تسرع الملك الأردني إلى إعلان الحلف المزعوم ورفع بطاقة "التنظيمات الشيعية" (المقصود حزب الله بشكل أساسي) وربطها بالمخدرات، وهو الربط الذي تروج له الولايات المتحدة والمملكة السعودية منذ سنوات.

جاءت الردود على تصريحات بايدن وعبد الله الثاني من كل الاتجاهات. في البداية، قالت الإمارات إنها ليست معنية بأي تحالفات إقليمية، ثم جاءت زيارة رئيس الوزراء العراقي إلى طهران والرياض استكمالاً لجهود الوساطة التي يقوم بها العراق بين البلدين. وما نتج من هذه الزيارة هو إعلانهما استعدادهما لاستئناف العلاقات بينهما، وإرسال فرق فنية لفحص مباني سفارتيهما تمهيداً لإعادة فتحهما.

في الوقت نفسه، زار وزير الخارجية الإيراني تركيا، أحد أقطاب الحلف المنشود، للتباحث في العلاقات الثنائية بين البلدين، والتي وصفتها أنقرة بأنها متينة. مجمل هذه المحادثات دفعت الناطق باسم الخارجية الإيرانية خطيب زاده إلى التصريح بأن فكرة إنشاء حلف عسكري شرق أوسطي ليست سوى وهم.

في ظل تراجع النفوذ الأميركي العالمي، لم يستطع جو بايدن إملاء رغبة إدارته على حلفائه، كما فعل سلفه أوباما. هؤلاء الحلفاء يرون التقدم الروسي الصيني في العالم، ويدركون تماماً أن مصالحهم سوف تتضرر في حال انحيازهم إلى أي طرف في صراع الأقطاب، والأهم أنهم باتوا يعلمون أن التحالف الغربي، وعلى رأسه الولايات المتحدة، لن يكون قادراً على حماية مصالحهم، وهو بالكاد يقدر على حماية مصالحه في مواجهة الآثار الاقتصادية المدمرة للعقوبات التي يفرضها الناتو وحلفاؤه على روسيا.

لم يكن أمام الإدارة الأميركية، إزاء عدم الاهتمام الذي أبداه حلفاؤها في المنطقة، إلا البحث عن بوابة خلفية للعودة إلى مفاوضات الاتفاق النووي، فكان الإعلان عن المفاوضات غير المباشرة بين الولايات المتحدة وإيران في قطر، والتي انتهت جولتها الأولى من دون حدوث اختراق مهم، لكن وزير الخارجية الإيراني قيّمها بشكل إيجابي، وهو موقف وزير الخارجية القطري أيضاً.

جاءت مجمل ردود فعل الدول المقصودة بالتحالف لتكبح جماح التفاؤل الأردني والإسرائيلي بإقامة الحلف المنشود. لم يتراجع الأردن عن موقفه، بل إن وزير الخارجية الأردني أكد موقف الملك عبد الله الثاني الداعم لإنشاء حلف عسكري يضمن أمن المنطقة.

أما "إسرائيل"، فلجأت إلى العودة للتحرش بالمقاومة، من خلال اختراق سفن تنقيب إسرائيلية المياه الإقليمية اللبنانية عند الخط 29، في استدعاء للتصعيد، ومحاولة لدفع الرئيس الأميركي إلى المزيد من التشدد في مباحثات الاتفاق النووي أو خلال زيارته الرياض.

هل تقبل الولايات المتحدة مدّ أنبوب غاز من إيران إلى أوروبا، ليكون بديلاً من الغاز الروسي؟ الإجابة البسيطة: هذا الاحتمال غير وارد، فالأمر يعني منح إيران اليد العليا في أي مفاوضات مستقبلية، وخصوصاً فيما يتعلق بالأسلحة البعيدة المدى.

هل يمكن أن تلجأ الولايات المتحدة إلى التصعيد العسكري في المنطقة على أيٍّ من الجبهات؟ الإجابة بالتأكيد بالنفي، فالاقتصاد العالمي لا يحتمل أزمة طاقة جديدة، والطموح الغربي اليوم يكمن في تهدئة الأمور في منطقة الخليج لزيادة إمدادات النفط، وخصوصاً مع اقتراب موسم الشتاء.

النتيجة المنطقية تقول: لا حرب ولا تحالفات في الأفق، لكن العيون لا بد من أن تظل شاخصة إلى التصعيد الغربي في الأزمة الأوكرانية، فالتصريحات الغربية تؤكد أنَّ الأزمة يجب أن تنتهي عسكرياً، أي هزيمة روسيا، لكن هذا الخيار غير وارد من دون تدخل مباشر من الناتو.

المطلوب اليوم هو الانفتاح باتجاه الشرق في آسيا، والجنوب في أفريقيا، في محاولة لخلق محور آسيوي - عربي - أفريقي قادر على التصدي للنتائج الاقتصادية والسياسية للأزمة العالمية، ويمكن أن يتحول هذا المحور إلى قوة اقتصادية إقليمية قادرة على فرض شروط مصالحها على تسويات ما بعد الحرب.