أترك الأمر لبيبي!
قد يبدو في العلن بأن نتنياهو هو تلك الشخصية المتمردة على الجميع بما فيهم الولايات المتحدة، ولكن بالعودة إلى تاريخ الرجل، يمكن القول بأنه "صنع في الولايات المتحدة الأميركية".
في العام 2009 قدّمت مؤسسة بروكينعز الأميركية دراسة من 170 صفحة تحت عنوان "أيّ طريق إلى بلاد فارس؟"؛ تتناول الدراسة الخيارات الأميركية المتاحة لتغيير إيران بدءاً بالطرق الدبلوماسية مروراً بالتدخّلات العسكرية وصولاً الى تغيير النظام وليس آخراً القبول والاحتواء.
ما يهمّنا هنا هو ما ورد في الفصل الخامس من الدراسة والذي حمل عنوان "اترك الأمر لبيبي: سماح أو تشجيع الضربة العسكرية". يبدأ الفصل بالإشارة الى أن إيران لا تهدّد الولايات المتحدة بشكل مباشر، فالبعد الجغرافي وقدراتها العسكرية لا تسمح لها بذلك، ولكن الأمر مختلف بالنسبة لـ "إسرائيل" التي طالما تحدّثت عن الخطر الإيراني المقبل والخشية من امتلاكها للسلاح النووي.
ولذلك تشير الدراسة إلى أنه لا ضير من السماح أو تشجيع "تل أبيب" على ضرب منشآت إيران النووية. ويستندون في ذلك إلى أمرين:
الأول: حماسة معظم المسؤولين الإسرائيليين أكانوا من اليمين أو اليسار للقيام بالأمر. في العام 1992 حمل إسحاق رابين عنوان "الخطر الإيراني" في أول زيارة له إلى واشنطن بعد انتخابه، أما بنيامين نتنياهو فقد قالها صراحة في أول خطاب له أمام الكنيست كرئيس للحكومة الإسرائيلية "لا يمكننا تحمّل هؤلاء الطغاة المصابين بجنون العظمة بخفّة والذين يهدّدوننا بالقضاء علينا"، في إشارة الى إيران بطبيعة الحال.
الثاني: نجاح "عملية البستان" الإسرائيلية، وهي عبارة عن ضربة وجّهتها "تل أبيب" لما قالت إنه مفاعل نووي سوري في محافظة دير الزور شرقي سوريا، وذلك في العام 2007. ولم تعترف بالأمر إلا في العام 2018 كاشفة بحسب روايتها عن التنسيق الحاصل آنذاك بين دمشق وبيونغ يانغ لبناء ذلك المفاعل. وقد قال وزير الأمن الإسرائيلي في ذلك الحين أفيغدور ليبرمان "إنّ على المنطقة بأكملها استيعاب الدرس وعليها فهم المعادلة". في إشارة إلى إيران من جديد.
بحسب الدراسة، يفضّل الأميركيون أن تقوم "إسرائيل" بما يوددون هم القيام به لأسباب ثلاثة؛ الأوّل لأنّ "إسرائيل" تريد ذلك على اعتبار أنّ التهديد المباشر يمسّ أمنها القومي. الثاني لضمان أن يكون أيّ ردّ فعل محصور بـ "إسرائيل" ولا سيما بأنّ لدى الولايات المتحدة الكثير من المصالح والقواعد العسكرية في المنطقة، وهي غير معنية باستهدافها أو إلحاق الضرر بها.
أما السبب الثالث فهو لضمان تحويل أيّ انتقاد دولي باتجاه "إسرائيل" لا واشنطن.
اليوم وبعد 15 عاماً على صدور هذه الدراسة، هل تستطيع "إسرائيل" تحقيق أمنايتها بضرب منشآت إيران النووية من دون ضوء أخضر أميركي للتنفيذ ومن دون مساعدة ملحوظة؟
عاد هذا السؤال إلى الواجهة بعد الأوّل من تشرين الأول/أكتوبر، ليلة الردّ الإيراني على اغتيال رئيس المكتب السياسي لحركة حماس إسماعيل هنية على أراضيها، وعلى استشهاد الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله. ذلك الردّ الذي عُمل على التخفيف من أثره في ساعاته الأولى عبر القول بأنه فشل (بنيامين نتنياهو 1-10-2024)، ليوضع وبعد أيام قليلة في خانة "أكبر هجوم في التاريخ على إسرائيل"، وبذلك أصبح "الردّ" على الردّ "واجباً وبقوة". (نتنياهو 5-1-2024).
حتى كتابة هذه السطور من الواضح بأن واشنطن، أقلّه علانية، لا ترغب بهكذا ضربة، كما أنها لا ترغب حتى بالمساس بالقطاع النفطي. أما استفراد "إسرائيل" بضربة على هذا المستوى فهذا يفوق قدراتها العسكرية التي قد تمكّنها في أفضل الأحوال من إلحاق الضرر ببعض المنشآت، إلا أن القضاء على البرنامج النووي – كما يحلم الإسرائيليون- أصبح خارج النقاش بعد كلّ هذه السنوات من العمل.
قد يبدو في العلن بأن نتنياهو هو تلك الشخصية المتمردة على الجميع بما فيهم الولايات المتحدة، ولكن بالعودة إلى تاريخ الرجل، يمكن القول بأنه "صنع في الولايات المتحدة الأميركية"، وبالتالي مهما بدا أنه يغرّد خارج السرب الأميركي إلا أنه لا يذهب بعيداً، ولا يستطيع الذهاب بعيداً، تحت القيود البنيوية التي نمت مع تشكيل كيان الاحتلال، في اعتماده عسكرياً واقتصادياً على المنظومة الغربية.
وعليه فإنّ أيّ عمل يقوم به نتنياهو وتحديداً خارج نطاق فلسطين المحتلة، هو عمل أميركي قبل أن يكون إسرائيلياً، تخطيطاً وتنفيذاً.