انتصار المقاومة ومُغامرة المُعتدلين

قبل 13 عاماً، عاش العرب والمسلمون أيّاماً مجيدة، بشَّرت المظلومين والمُستضعفين في كل مكان بالخير والأمل بالنصر على الاستكبار العالمي، فقد تصدَّت المقاومة اللبنانية لعدوانٍ صهيوني وانتصرت عليه وتمكّنت من تحقيق ما تصبو إليه من أهداف، ونقصد بكل ذلك حرب تمّوز/ يوليو 20016 التي دامت 34 يوماً، ما بين عملية "الوَعد الصادِق" يوم 12 تمّوز/ يوليو، إلى يوم 14 آب/ أغسطس 2006.

وحدث الصمود الأسطوري وفرضت المقاومة الرأي والعقيدة القتالية وتكبيد العدو خسائر هائلة في الأرواح والمعدّات، كما أجبرت صواريخ المقاومة الجنود والمواطنين الإسرائيليين على الاختباء في الملاجئ، ما يعني أن الحرب انتقلت إلى العُمق الصهيوني لأول مرّة، وأذكر هنا بفخر، أنني تشرَّفت وحضرت احتفال المقاومة اللبنانية في بيروت يوم 25 آيار|مايو 2006، وقد دُهِشتُ عندما علمتُ أن "السيّد حسن نصر الله" سيُلقي كلمته في نفس الفندق الذي نقيم فيه "فندق ميريديان كومودور" في حيّ الحمراء، وسبب دهشتي بسبب تساؤل داخلي عن كيفية قيام شباب المقاومة الرائع بحماية السيّد في تلك المناطق المُزدحِمة، ولكنّ السيّد جاء وخَطَب وبشَّر يومذاك بنصرٍ قريب، وحاولنا استشراف ما قال ووَعَد، ولم ننتظر كثيراً، وهو ما حدث بعدها بأقل من شهرين.

وعن استذكار ما حدث يومها، وما يحدث اليوم نجد تشابُهاً، كأن الزمن توقّف، أو يُعيد التاريخ بعض فصوله المستمرة المُتلاحِقة، ونحن لا نكتب عن تفاصيل الحرب، فهي معلومة وموجودة، ولكن نريد مُقارنة ما حدث من انتصارٍ عام 2006، وما يحدث اليوم، لأن الحرب على المقاومة مستمرّة، ولكنّ المقاومة تنتصر في النهاية، فالدولة السورية المقاوِمة تمكَّنت من الانتصار على أكبر مؤامرة في التاريخ الحديث، وانتصارها انتصار لمحور المقاومة، وفي نفس السياق نجد نفس القوى المقاوِمة ونفس القوى المُعتدلة كما هي من دون تغيير، فهي دائماً في تحالفٍ مع "أميركا"، وتعتبر نفسها محور الاعتدال، هذا على المستوى الرسمي السياسي.

ولكنّ الشعوب دائماً تنحاز إلى ضميرها وعروبتها وإسلامها، فقد اشتعلت التظاهرات المؤيِّدة للمقاومة في كل أرجاء الوطن الكبير، وكان عنوان "جريدة الوفد" المصرية آنذاك خير تعبير عن الواقع، فقد كان العنوان الرئيسي هو "الشعوب مع لبنان والحكّام مع إسرائيل"، وهو ما حدث ويحدث اليوم، فعندما نجحت عملية "الوَعد الصادِق" بأسْرِ جنديين إسرائيليين، علّق وزير الخارجية السعودي الراحل "سعود الفيصل" على العملية باستنكار، ووصفها بالمُغامرة، ولكن "السيّد حسن نصر الله" ردّ عليه وعلى غيره، بقوله "نحن مُغامرون، لكننا مُغامرون منذ العام 1982،  ولم نجلب لبلدنا سوى النصر والتحرير، هذه هي مغامرتنا"، وهو صادِق، فالمقاومة اللبنانية لم تخسر حرباً، بل دوماً تنتصر على الكيان الصهيوني وداعميه من الغرب المُتآمِر والشرق المُتخاذِل، وتمكَّنت من تحرير الجنوب اللبناني وإجبار العدو على الانسحاب عام 2000 وأذلّ الاحتلال وصغّره وأخرجه صاغِراً، والمقاومة في النهاية لا تُغامِر، ولكنّ لها حساباتها السياسية والإستراتيجية والعسكرية، فهي تُغامِر بحساباتٍ دقيقةٍ، وهو ما يكفل لها النصر، بعد الاعتماد على الله بطبيعة الحال، وهو ما يتكرَّر في هذه الأيام، حيث تقوم الصهيونية العالمية والأميركية وبدعمٍ خليجي بمُحاصرة وفرض عقوبات على دولة إيران، لا لشيء سوى دعمها للمقاومة في لبنان وفلسطين، ولكنّ الصمود الإيراني جعل الرئيس الأميركي "دونالد ترامب" يتراجع عن قرار الحرب حتى الآن، وإن فَرَض مزيداً من العقوبات الاقتصادية، وفي النهاية، فرضت إيران ما يُمكن تسميته "توازُن الرُعب"، وهو الذي منع العدوان الأميركي على الجمهورية الإسلامية، وهو نفسه توازُن الرُعب، الذي حدث بين المقاومة والكيان الصهيوني عام 2006، فقد قال "السيّد نصر الله" للعدو حينها :"أردتموها حرباً مفتوحة، ونحن ذاهبون إلى الحرب المفتوحة، ومُستعدّون لها وستكون حرباً على كل صعيد إلى حيفا، وصدّقوني إلى ما بعد حيفا وإلى ما بعد ما بعد حيفا."، وهو ما أجبر العدو على وقف العدوان، ثم الدخول في مفاوضان غير مباشرة لتبادُل الأسرى، وتمّ تحرير "سمير القنطار" عميد الأسرى، ومعه مجموعة تمّ تحريرها غصباً عن حكومة العدو الصهيوني.

والمُخجِل عقائدياً أمس واليوم، أن الدعم الوهّابي للصهيونية جاء بالفتاوى التكفيرية، وأبرز تلك الفتاوى للشيخ الوهّابي "عبد الله جبرين" خلال احتدام الحرب، والتي أفتى فيها بعدم نُصرة حزب الله أو حتى مُجرّد الدُعاء له بالنصر، وهو ما يعني ضمناً الدُعاء للصهيونية أن تنتصر، ولكنّ الله لم يستجب الدُعاء، تماماً مثلما لم يستجب لفتاوى وأدعيةٍ وهّابيةٍ ضد مسلمين، ونرى نفس الفتاوى تعود من جديد منذ أن أعلن "دونالد ترامب" حصار إيران بعد الخروج من الاتفاقية النووية، وفتاوى خامِدة للعدو، فهي تكفير الدولة والمذهب الإمامي، وهي فتاوى تكفير مُتكرِّرة ومُنتشرة، وجميعه لخدمة العدوان الأميركي الصهيوني ضد دولة مسلمة "إيران" وضد تنظيم مقاوِم موجود ومُنتشِر في لبنان واليمن وفلسطين والعراق، ولكن دول الخليج تخوض هي نفسها "مُغامرة" طائِشة، تختلف جذرياً عن مُغامرة المقاومة من قبل، لأن المُغامرة الخليجية اليوم غير محسوبة العواقِب، فلا هي تمكَّنت من إجبار "ترامب" على مُحاربة "إيران"، ولا هي انتصرت في أية حرب خاضتها،

إن ما حدث عام 2006 قد يتكرَّر، ليس بالضرورة بنشوب الحرب بين الصهيونية الأميركية والجمهورية الإسلامية، ومحور المقاومة ككل وفي ضميره "حزب الله" ، ولكنّ المقاومة تنتصر في النهاية، ودلائل هذا النصر كثيرة ومُتعدِّدة، فالمحور الخليجي مُنيَ بالفشل كثيراً، فقد فشلت السعودية في قمم مكّة المُكرّمة الثلاث في شهر رمضان 1440 هـ ، فلم تتمكَّن من تشكيل حلف عربي لمُحاربة إيران، كما خسرت المملكة السعودية في القضيّة السوريّة، عندما اتفقت مع قطر وتركيا (رغم كل خلافاتهم الصارِخة) كجبهةٍ ضد سوريا وحلفائها، كما خسرت السعودية ودولة الإمارات العربية على مستوى الحروب الإقليميّة، فشلت الدولتان في مُغامرة حرب اليمن، وأيضا على المستوى الدولي، فقد فشلت في تشكيل "ناتو" عربي، كما ذكرنا، ولقد كان متوقّعاً أن تلجأ السعودية إلى تكوين تحالف سرّي مرة أخرى مع إسرائيل، بوصفها شريكاً يمكن الاعتماد عليه، في حال الحرب مع إيران، ليصبح شَبَح إيران هو دافِع السعودية الأكبر للارتماء في أحضان إسرائيل، ثمّ تبنّت كل من السعودية وإسرائيل مواقف مُتقارِبة للغاية في ما يخصّ الشأن الإيراني، بدءاً من استعداد السعودية لفتح مجالها الجوّي في حال توجيه ضربة لإيران، وليس انتهاءً برفض كل من الدولتين الاتفاقية النووية بين إيران وأميركا.

ولنا الحق في أن نتساءل، إذا لم تكن تلك مُغامرة، فكيف تكون المُغامرة، ونعتقد يقيناً أنه وكما فشلت دول الخليج في دعم الصهيونية عام 2006، وانتصرت المقاومة رغماً عنها، فقد فشلت حتى اليوم في حثّ "ترامب" على خوض الحرب، ونلاحظ أنه كلما ابتعدت "أميركا" عن الخليج، صَرَخَ الأمراء والملوك، وعادوا للالتصاق بالعدو الأميركي أكثر، فيدفعون المال، ويُفقِرون شعوبهم، وهي أكبر المُغامرات فشلاً وخزياً.. كل عام والمقاومة مُنتصِرة والأمَّة مُتوحِّدة..