تركيا تنسج معادلات ما بعد الانسحاب الأميركي
على الرغم من أنّ البيت الأبيض قدّم قراره بالانسحاب من سوريا على طبق من ذهب للقيادة التركية محاولاً تجيير جميع مكاسبه لصالح موقعها ونفوذها في سوريا وربما المنطقة،
إن ذلك لا يلغي حقيقتين أساسيتين هما: الأولى أن قرار الانسحاب لبّى ما كانت تطالب به دمشق وموسكو منذ أشهر طويلة. والثانية أن القرار من حيث قصد أو لم يقصد، وجّه صفعة قوية للسعودية التي دفعت منذ فترة قريبة مبلغ 100 مليون دولار بهدف إعادة إعمار مناطق شرق الفرات، وكانت ثمة خطة مُقترحة لنشر قوات عربية في تلك المناطق. وجاء افتتاح السفارة الإماراتية في دمشق مصحوباً بإعلان أن المقصود منه مواجهة "التوغّل التركي والإيراني في سوريا" ليؤكّد أن قرار ترامب بالانسحاب سيكون في أحد مضامينه بداية مرحلة جديدة من الصراع على سوريا.
هذه الحقائق والتطوّرات، التي عصفت بالمشهد السوري منذ زيارة الرئيس السوداني إلى دمشق بغضّ النظر عن وجود رابط بينهما من عدمه، تزيد من جرعة التعقيد في قراءة أبعاد قرار الانسحاب الأميركي ودلالاته. إذ حتى لو كان ظاهر الحال يدلّ على أن أنقرة ستكون أكبر المُستفيدين بعد أن اختارها ترامب لترث تركته في شرق الفرات، فإن هذه التركة لا تبدو خاليةً من الديون المُستحقّة التي يتوجّب على أنقرة أن تتعامل معها عاجِلاً أم آجِلاً.
وفي أعقاب الانسحاب الأميركي سيصبح للدور التركي في سوريا ثلاثة وجوه مختلفة: الأول دورها في مناطق خفض التصعيد بموجب اتفاقات أستانا بالشراكة مع إيران وروسيا. والثاني دورها في مناطق درع الفرات وغصن الزيتون الخارجة عن إطار أستانا لكنها خاضعة لتفاهمات خاصة مع الأميركي والروسي حسب الحال. والثالث هو دورها المُستجدّ في شرق الفرات والذي لن يتبلور بشكل نهائي قبل معرفة نتائج اجتماعات جون بولتون مستشار الأمن القومي الأميركي مع المسؤولين الأتراك في أنقرة مطلع العام القادم، ونتائج اجتماعات الوفد السياسي والاستخباري التركي الرفيع مع المسؤولين الروس في موسكو.
وأنقرة التي استطاعت التوفيق بين دورها الأول والثاني، لن تجد صعوبة كبيرة في أداء الدور الثالث المُتعلّق بشرق الفرات لا سيما أن هذه المناطق لا تدخل ضمن تفاهماتها الثلاثية مع إيران وروسيا، وبالتالي يمكن لها من خلال مُحادثاتها مع الروسي والأميركي أن تجد صيغة ما لتطبيقها على المناطق التي ستنسحب منها القوات الأميركية. وقد يتوقّف ذلك على ما سيقوله جون بولتون خلال اجتماعاته في أنقرة، وما إذا كان سيضع شروطاً "ثقيلةً" على الجانب التركي مقابل التنسيق "الكامل" مع أنقرة بخصوص الانسحاب. وأثقل هذه الشروط هو مطالبة بولتون بأن تتولّى أنقرة مواجهة النفوذ الإيراني والروسي في سوريا. لكن هذا مُستبعَد لأن خروج القوات الأميركية بهذا الشكل المُفاجئ يدلّ على أن استراتيجية واشنطن في مواجهة إيران وروسيا في سوريا طرأ عليها تغيّرٌ جذري ولم تعد تنظر إليها من زاوية عسكرية بحتة. وقد يكون هنا مربط الفرس، إذ قد تكون غاية واشنطن من الانسحاب وتعيين أنقرة "وصيّاً" مكانها هي زرع بذور مواجهة على المدى الطويل ولا يمكن لأحد أن يتنبّأ بما ستتفق عنه هذه البذور في قادم الأيام.
لذلك لم تجد أنقرة غضاضة في قبولها التوكيل الأميركي في موازاة تمسّكها بالشراكة مع روسيا وإيران بموجب اتفاقات أستانا، فهي تنظر إلى شرق الفرات كمنطقة "بِكر" ينبغي أن تخضع لاتفاقات وتفاهمات مستقلة. ومشكلة أنقرة الحقيقية لن تكون في التوفيق بين التزاماتها الأستانية ومُتطلّبات دورها الجديد في شرق الفرات، بل تكمُن مشكلتها في الخروج من التعقيدات التي تحيط بملف هذه المنطقة بأقلّ الخسائر المُمكنة وبأعلى نسبة من الأرباح. وفي سبيل ذلك تحتاج أنقرة إلى كل من موسكو وواشنطن لإيجاد صيغة توافقية تحكم مشهد المنطقة بعد الانسحاب. ولا تقلّ حاجة أنقرة في ذلك عن حاجة كل من موسكو وواشنطن إلى أنقرة، لأن كل لاعب بات يختزن أوراق قوّة لا يمكن أن تستمر اللعبة من دون وجودها على الطاولة.
فأنقرة تريد من واشنطن حسم بعض تفاصيل الانسحاب وأهمها: مصير السلاح الأميركي الذي بحوزة "قسد" ومصير عشرات الآلاف من المقاتلين الكرد الذين درّبتهم واشنطن. كذلك تريد أنقرة معرفة دورها في مُحاربة داعش وما مصير مُعتقلي التنظيم في السجون الكردية لا سيما بعد التهديد بإمكانية إطلاق سراحهم انتقاماً من أنقرة. وذلك في مقابل أن تؤدّي أنقرة المطلوب منها أميركياً وفق ما تتمخّض عنه محادثات التنسيق على الانسحاب.
أما مع موسكو فتبدو العلاقة أكثر تعقيداً لأنه بناء على تفاهُمات الطرفين سيتحدّد مدى الدور التركي في المنطقة. إذ تخشى أنقرة من دور روسي في التقريب بين دمشق وقسد بما يمكن أن يؤدّي إلى إجهاض قسم كبير من المكاسب التركية جرّاء الانسحاب الأميركي، لأن أيّ تفاهم بين الطرفين سيجعل الطريق مفتوحاً أمام الجيش السوري للدخول إلى مناطق شاسعة في شرق الفرات. ولا شك أن أنقرة قرأت بوضوح التصريح الروسي بأن دمشق ينبغي أن تسيطر على المناطق التي ستنسحب منها القوات الأميركية.
ونظراً للتعقيدات الإضافية التي تُحيط بملف شرق الفرات وبالأخصّ الموقع الاستراتيجي للمنطقة في مثلّث حدودي مع تركيا والعراق، والدور الفرنسي والبريطاني الرافِض للانسحاب الأميركي، يبدو أن كلاّ من سيناريو أستانا - سوتشي أو درع الفرات لا يكفي لوحده لحلّ مُعضلة ما بعد الانسحاب الأميركي، لذلك قد تلجأ الأطراف إلى تلفيق حل مُختلط يستند إلى التفاهمات والأضواء الخضراء من جهة مع عدم استبعاد بعض العمليات العسكرية المحدودة من جهة ثانية.