الدولة التونسية أمام الحقيقة والكرامة
لم يغفَل المُحتل الفرنسي، قبل خروجه من البلاد، عن تحصين إرثه الاستعماري من خلال فرض الإبقاء على الفصلين 33 و34 الواردين في اتفاقيتيّ الاستقلال الداخلي والتام واللذّين ينصّان: أولاً، على التزام الدولة التونسيّة بمنح حقّ الأفضليّة للمشاريع الفرنسيّة عند تساوي الشروط للحصول على رُخَص التفتيش والاستثمار وعلى اللزم. وثانياً، على منع الدولة التونسيّة من تغيير آجال اللزمات والاتّفاقيات ورُخَص التنقيب والاستثمار المُبرَمة أو الممنوحة إلاّ بموافقة الطرف الفرنسي.
هيئة الحقيقة والكرامة، التي صوّت البرلمان، قبل أيامٍ، لوقف نشاطها في جلسةٍ غير قانونية بسبب عدم اكتمال النصاب القانوني لحضور النواب، وهو الثلث، هي واحدة من تلك المؤسّسات التي أكّدت ما كان مُتداولاً، من دون أدلّة ملموسة، عندما نشرت وثائق تكشف الاتفاقيّاتِ الموقّعة بين تونس وفرنسا، في حُقبة الاستعمار وبعدها، تُشير إلى تكوين شركات منحتها حقوق استغلال الحقول النفطيّة والمقاطع في إطار عقود استغلال أو رُخَص تنقيب وتحديد قيمة أتاوات استغلال، ومنح امتيازات زمنية لـ 99 سنة أو إحداث تدابير خاصة بالشركات الفرنسيّة لتسهيل التنقيب عن المواد المعدنيّة.
لم يغفَل المُحتل الفرنسي، قبل خروجه من البلاد، عن تحصين إرثه الاستعماري من خلال فرض الإبقاء على الفصلين 33 و34 الواردين في اتفاقيتيّ الاستقلال الداخلي والتام واللذّين ينصّان: أولاً، على التزام الدولة التونسيّة بمنح حقّ الأفضليّة للمشاريع الفرنسيّة عند تساوي الشروط للحصول على رُخَص التفتيش والاستثمار وعلى اللزم. وثانياً، على منع الدولة التونسيّة من تغيير آجال اللزمات والاتّفاقيات ورُخَص التنقيب والاستثمار المُبرَمة أو الممنوحة إلاّ بموافقة الطرف الفرنسي.
ومن الطبيعي أن تؤدّي تلك الاتفاقيات إلى خسارة الدولة التونسية سيطرتها على مواردها الطبيعيّة والماليّة. ففي محضر جلسة الوزير الأوّل التونسي وسفير فرنسا نجد أنّ إنتاج الحقول النفطيّة التونسيّة خلال سنة 1971 قد بلغ 4 ملايين طن، أي ما يُعادل 30.4 مليون برميل، في حين لم تتجاوز مداخيل الدولة التونسيّة من النفط خلال نفس الفترة 300 مليون فرنك فرنسي أي ما يُعادل 550 ألف دولار أميركي، بمعدّل 0.2 دولار للبرميل الواحد، رغم أنّ سعر برميل البترول سنة 1971 كان في حدود 3.6 دولار. وهو ما يعني أن المردوديّة لم تتجاوز 6%.
وفقدان القرار التونسي استقلاليّته تجلّى أيضاً في مجال التصرّف في الطاقة، ليشمل إقصاء تونس من المُحادثات مع الطرف الجزائري حول استغلال الأراضي التونسيّة لنقل البترول من الجزائر. وانتهت المفاوضات بين الجزائر وفرنسا إلى فرض اتّفاقيّة مع الحكومة التونسية سنة 1958 لمدّ أكثر من 510 كلم من إجمالي 775 كلم مربّع من قنوات نقل البترول من "عين أميناس" في الجزائر إلى ميناء الصخيرة ، وفق عمولات حدّدها الطرف الفرنسي مُنفرداً ومن دون الرجوح إلى الحكومة التونسية.
أما بالنسبة إلى الشركة العامة للملاحات التونسية "كوتوزال"، فإن ملّفها طُرِح لأوّل مرّة خلال جلسة تنصيب مهدي جمعة رئيساً للحكومة في جانفي 2014، لكنه لم يُحقّق أيّ تقدّم رغم الضغط السياسيّ والإعلاميّ لمُراجعة عقد الاستغلال وتحسين بنوده. وجاءت وثائق هيئة الحقيقة لتؤكّد أكثر ما نُشِر في الإعلام.
في وثيقة هيئة الحقيقة والكرامة، أعلن المرسوم الموقّع من قِبَل محمّد الأمين باي والمُقيم العام الفرنسي في تونس جان مونس بتاريخ 06 /10/ 1949 اندماج أربع شركات تستغلّ ملاّحات خنيس وسيدى سالم وطينة ومقرين وفق مرسوم 6 أكتوبر 1949. وتبعت هذه الاتفاقيّة ملاحق تحدّد حجم الأراضي المُستغلّة ومدّة الاستغلال التي تمّ تحديدها بـ50 سنة قابلة للتجديد إلى 15 سنة إضافيّة ، يتمّ تجديدها بشكلٍ آليّ إذا ما لم يُطلَب من الشركة إنهاء الامتياز. أما ضرائب استغلال الأراضي فتُحسَب بأدنى سعر من السُلّم العام لاستغلال أراضي الدولة التونسية. كما تتضمّن الوثيقة المذكورة العائِد المالي من استغلال الأراضي التونسيّة ، والتي حدّدتها الفقرة الثانية من المادة 11 بسداد حقوق استغلال الأملاك العامة بقيمة 1 فرنك للهكتار الواحد سنوياً لجميع المناطق التي تشملها رسوم الامتياز للمجال العام.
وفي اتفاقية 03/06/ 1955 للاستقلال الداخلي التّي تضمن مصالح الشركات الفرنسية بعد الاستقلال، نصّت الفصول 28 و29 و30 و31 و32 على التزام الدولة التونسيّة بالحفاظ على الوضعيات القانونيّة للشركات الفرنسيّة في تونس ، والتعهّد بعدم إجراء أيّة تعديلات للعقود المُبرَمة أو التدخّل بالقوّة العامّة في شؤون تلك المؤسّسات أو المسّ بامتيازاتها. كما تعهدّت الدولة التونسيّة بعدم المسّ بالاستثمارات الفرنسيّة أو مراجعة رُخَص التنقيب والاستغلال إلاّ بموافقة الطرف الفرنسي.
لكن ما نشرته هيئة الحقيقة والكرامة لا يُمثّل إلا جزءاً من القضايا المسكوت عنها حتى الآن ، مثل آليات إبرام عقود الاستغلال وامتيازات التنقيب الممنوحة للشركات الأجنبيّة وشركة بوشمّاوي النفطيّة وقضيّة منجم سراورتان، إضافة إلى ملفّ الغاز الصخري الذّي مازال يُثير جدلاً واسعاً في أوساط المجتمع المدني والجمعيات البيئيّة.
تفاوت ردود الأفعال
من الطبيعي أن تُسارِع السفارة الفرنسية إلى الردّ، فقالت في بيان لها إنّ فرنسا تتعامل بشفافيّة في هذه القضية ، وهي لا تحاول أن تخفي شيئاً من حُقبة الاستعمار بدليل تمكينها الهيئة من عدد من تلك الاتفاقيات، ولا توجد أيّة مؤسّسة فرنسية تتمتّع بشروط تفضيلية أو بحقوق خاصة لاستغلال الموارد الطبيعية في تونس.
لكن اللافت أن تستفزّ تلك الوثائق عدداً من "المؤرِّخين" التونسيين الذين تبرّعوا لإدانة هيئة الحقيقة والكرامة، فوصفها خالد عبيد بأنها "محاولات تزييف من شأنها تقسيم التونسيين وتوظيف التاريخ في صراعات جانبية سياسوية"، وهو كلام لقيَ ترحيباً من الرئيس قايد السبسي الذي استقبله عقب ذلك.
هذا الموقف وجد رفضاً من منظمات المجتمع المدني وبعض الأحزاب التي وقفت إلى جانب هيئة الحقيقة والكرامة ورئيستها سهام بن سدرين ، رغم بعض التحفّظات والاختلافات السياسية والإيديولوجية. لكن الردّ الأكثر جديّة جاء من المؤرِّخ الأكثر اعتباراً في تونس عبد الجليل التميمي الذي فنَّد كلام خالد عبيد ، وأكّد في تصريح إذاعي صحّة الوثائق التّي تولّت مؤسّسته دراستها والتثبّت منها، مُحمِّلاً القيادة السياسيّة التي وقّعت وثيقة الاستقلال مسؤوليّة التفويت في الموارد الباطنية للدولة التونسية على غِرار الملح والنفط.
بعد مرور أكثر من ستة عقود على توقيع تلك الاتفاقيات المُجحِفة من دون مراجعة، لم يعد طرح مسألة السيادة الوطنيّة على ثروات البلاد مجرّد ترفٍ فكري قائم على تخمينات، بل أصبح مسألة موثّقة يتعيّن العمل على كشفها وتوضيحها بشكلٍ أوسع، وصولاً إلى استعادتها بشكلٍ كاملٍ أمام التغييرات الجيوسياسيّة التي تواجهها تونس والمنطقة برمّتها.