الاحتلال والانتخابات العراقية ثوابت الكتل البرلمانية ومُتغيّرات التحالفات السياسية

إن الفحص السريري للقوائم الانتخابية، والكتل المُسجّلة للمكوّنات الثلاثة المؤبّدة، يجزم بأن قانون الانتخابات غير حاسِم في الانعكاس العملي لتوزّع القوى واصطفافاتها السياسية. وفي السياق بدأت هذه الظواهر تُشكّل لوناً مهماً من الخليط الهجين الذي بات يُهيمن على المشهد الانتخابي.

قانون الانتخابات غير حاسِم في الانعكاس العملي لتوزّع القوى واصطفافاتها السياسية

"إن الحزب الإسلامي إن كان ضعيفاً يُخشى عليه ، وإن كان قوياً يُخشى منه" – محسن الحكيم 1965

إن الخبرة التاريخية تقول إن أحد أسباب الفشل في احتلال العراق هو أن الجميع دخلوا من باب واحد، والذي لديه كفاءة في شؤون الصراع عليه أن يلتزم عدم الخروج من الباب الذي دخل منه. ذلك لأن الحياة تعلن أنه ليس الأقوى في الحياة السياسية من التيارات المهمة هو الذي ينجو ، ولا الأذكى هو الذي ينتصر، إنه النوع الأحذق في التكيّف مع المُتغيّرات في مسيرة التغيير المطلوبة. وإذا كانت الانتخابات هي السِمة العلنية للديمقراطية الاحتلالية فإن كبير المُحلّلين في الكونغرس الأميركي، كينيث كاتزمان، يقول إن الدستور العراقي هو جَذر المشكلة القائمة، والتي ستستمر وتأخذ أشكالاً مختلفة حسب الوضع السياسي الخاص.

إن الآلية في البداية كانت تبدو متماسِكة في طورها الأول، وبدأت تتصدّع وتتفكّك لاحقاً رويداً رويداً إلى أن بدأت تظهر ملامح الانهيار الشامل في ربيع عام 2014 وانتخاباتها المُلتبسة على صعيد النتائج. ذلك أن الذرائعية الأميركية لا تتحمّل الصِدام الشامل بين انتصار "نوري المالكي" في ولاية ثالثة مع سيطرة داعش على شمال وغرب البلاد. وكما فشلت هذه الذرائعية في انتخابات عام 2010 في طرح قائمة "إياد علاوي" بكونها المنتصرة انتخابياً وعابرة للطوائف والأعراق في سياق انتخابات، لحمتها وسداها هو التوافق الطوائفي والعرقي للحفاظ على التماسُك البنيوي للعملية السياسية. والآن يرجع الزوجان، فردريك وكيمبرلي كاغان، في رفع عقيرتهما ويُعيدان نفس الثرثرة اللفظية حول المُخطّطات الإيرانية للاستيلاء على العراق انتخابياً تمهيداً للسيطرة العسكرية عليه من خلال تنظيمات الحشد الشعبي ومشتقاته المختلفة.

إن الرأي الأميركي من خلال "كاغان" برفض الأغلبية السياسية في الانتخابات وتشكيل الحكومة القادمة، لا يمكن الدفاع عنه ضمن الوضع الديموغرافي المُشتّت، ولا يصحّ تطبيقه في حالات عدم إجراء أية تغييرات ولو طفيفة في قوانين الانتخابات والأحزاب السياسية وآلية تشكيل الحكومة العتيدة. بهذا المعنى فإن الاحتلال يريد تدوير الزوايا الانتخابية من خلال التسويات الانتخابية والاعتماد على الإعلام اليومي للفوز مُسبقاً قبل أن تقرّر صناديق الانتخابات النتائج الحقيقية للمزاج السياسي للناس. ذلك لأن الاحتلال يُدرك أن الأغلبية السياسية هي التي تقرّر المسيرة، وهي قطب الرُحى في التغيير المطلوب وبغضّ النظر عن الخريطة السياسية الداخلية للقوى المطروحة وتمثيلها الصحيح "للمكوّنات" الخالدة في السجلّ الاحتلالي. إن الفحص السريري للقوائم الانتخابية، والكتل المُسجّلة للمكوّنات الثلاثة المؤبّدة، يجزم بأن قانون الانتخابات غير حاسِم في الانعكاس العملي لتوزّع القوى واصطفافاتها السياسية. وفي السياق بدأت هذه الظواهر تُشكّل لوناً مهماً من الخليط الهجين الذي بات يُهيمن على المشهد الانتخابي. إن الخوف من التدخّل الإيراني، وهو تلويح ساذج ولاسيما الاتهامات بالمساعدات المالية المُضحِكة، لا يلغي حقيقة التدخّل الخليجي السياسي والإعلامي والمالي، وإنما يؤكّد الانطباع السائِد بأن الاحتلال يُعيد إنتاج فشله في هذا المضمار. وهو أيضاً يُفسّر الأساس النظري للفكرة الانتخابية لدى دولة الاحتلال وكون الطرفان العراقي والأميركي مازالا بعيدين جداً عن التناغم والتفاهم والاندماج. وما الإصرار الاحتلالي على الضغوطات السياسية والاقتصادية وتحريك المسألة الكردية مرة ثانية والحديث عن قانون شركة النفط الوطنية الجديدة، كلها محاولات رخيصة في تغيير شكلي لنتائج الانتخابات المُرتقَبة لتكون منصّة خاصة لشنّ الحروب الأميركية المُتعدّدة على محور المقاومة داخل العراق وخارجه في الاقليم وخاصة في سوريا وإيران. إن الملاحظات الاستشارية التي طرحها "أرند ليجفارت" في تحليله الحالي للانتخابات العراقية وتوقّعاته الخاصة، تُشير إلى تعلّق المدرسة الاحتلالية بنفس المنهج وأن الإدارة الأميركية الراهنة، دونالد ترامب، لن تخرج عن هذا المخطّط. إن "الاندغامية الديمقراطية" في الانتخابات الحالية، ومنها نموذج قائمة "سائرون" بين تيار يُقال عنه علماني وتيار ديني معروف، هي التي توفّر الحد الأدنى من الانتشار الانتخابي والمُترافِق مع الاستقطاب أيضاً في عملية انتخابية موحّدة. أي زيادة بناء القوائم الانتخابية والتسريع في تشييد كتلها المطلوبة للنجاح في اتّخاذ القرار النهائي لتشكيل الحكومة المُنتظرة. بهذا المعنى فإن الكتل البرلمانية ستكون ثابتة طوائفياً وعرقياً ولكن تحالفاتها الحاسمة ستكون سياسية. هذه الآلية الجديدة هي مغامرة أميركية – خليجية معكوسة للمسارات السابقة وتبغي تحقيق الانتصار في الحد الأدنى أو اختزال الخسائر في الحد الأعلى. والمهم أميركياً هو أن يكون الخليج الانتخابي له دور متميز في كل المكوّنات الثلاثة، ولا يقتصر حضوره على مكوّنٍ خاصٍ جرى استعماله سابقاً وكانت النتائج ذليلة. ومن الطريف أن الشعار السياسي لهذا التطبيق العملي للاندغامية الانتخابية، هو الحياد الداخلي في مجرى العملية السياسية والحياد الاقليمي في سياق الصراعات السياسية بين المحور الأميركي وأعوانه وتهديداته الحربية ومحور المقاومة السياسي والعسكري.

إن الوعي الاحتلالي للانتخابات القادمة، لا يمكنه أن يلبّي مجموعة من التناقضات الصارِخة. ومنها الهدف الأساسي للديمقراطية الاندغامية، ذلك لأن تناقضات "واقعية القوّة " المتاحة مع المؤسسات الليبرالية المطلوبة احتلالياً لا يمكنها أن تتساكن مع المعايير البنيوية التي يوفّرها تزايد القوّة العسكرية الأميركية وانتشارها، مرة بحجّة بقايا داعش والأخرى بالتلويح بخطورة الدور الانتخابي للحشد الشعبي، والاعتماد على الشركات الأمنية المسلّحة بذريعة حماية خطوط أنابيب نقل النفط من الجنوب إلى الأردن. إن الاحتلال في فشله الانتخابي في أعوام 2010 ، 2014، يكرّر نفس الإيقاع ما يجعل المُحلّل المعروف في التجارب الانتخابية، أشلي ريس، يُقرّر نفس الخيبة في أيار 2018، جازِماً بأن الفشل الأميركي ثلاثيّ هو في استمرار استعمال القوّة العسكرية، تشجيعه على التغلغل الخليجي، ورعايته المستمرّة للتنظيمات الإرهابية المسلحة. إن جذور الفشل قطعاً لا تكمن في عُطب النظرية الاندغامية فقط، ولكن الخلل التفصيلي موجود في القراءة العليلة للخصوصية العراقية والعجز في الاستنتاج السليم من عوامل الضعف والقوّة الداخلية المتواشجة مع إملاءات الجغرافية السياسية وفقدان الحصافة في التكيّف مع معضلاتها ومُتغيّراتها الدورية.