في العلاقات الاقتصادية المُختلّة شمال - جنوب: أوروبا وتونس نموذجاً

ينصّ الفصلُ 13 من الدستور التونسي على أن الثروات الطبيعية ملكٌ للشعبِ التونسي، وتمارسُ الدولةُ السيادةَ عليها باسمه، وتُعرضُ عقودَ الاستثمار المُتعلّقة بها على اللجنة المُختصّة في مجلسِ نواب الشعب، ثم تقدَّم الاتفاقيات التي تُبرَم في شأنها إلى المجلس للموافقة. لكن لا أحد يعرف حقيقة حجم تلك الثروة، بعد أن تمَ حذفُ سطرٍ من ذلك الفصل يوجِبُ نشرَ تلك العقود في الإعلام الرسمي.

تستمرُ فرنسا في المحافظةِ على امتيازِ استغلالِ الملح التونسي منذ حقبة الاستعمار

رغم ما تنطوي عليه بلدان جنوب المتوسّط من ثروات طبيعية هائِلة، إلا أنها فشلت في تحويلها إلى عنصر قوّة لتحقيق نهضة زراعية وصناعية حقيقية، واستمرت دول الشمال مُهيمنةً على مُقدّراتها، من خلال شركاتها الضخمة، محوّلةً إياها إلى أسواقٍ مُربِحة لمُنتجاتها ومصدرٍ رخيصٍ لليد العامِلة المُتخصّصة فيها. 

وإذا أخذنا تونس مثالاً، فإن ملف الثروات الطبيعية لا يزال يُمثّل لُغزاً لا يتوقّف الخُبراءُ والناشِطون والإعلاميون عن طرحه في مختلف المنابر بسبب غياب تفسيرات مُقنِعة لطريقة تعاطي الحكومات المُتعاقِبة معه.

أحد تلك الثروات الطبيعية التي يُطالب التونسيون بكشفِ حقيقةِ استغلالها هو الملح الذي تستحوذ فرنسا على عائداته منذ أكثر من ستين سنة. يتراوحُ إنتاجُ الملحِ في تونس بين 1.5 مليون ومليوني طن سنوياً، يتم تخصيص 100 ألف طن منها للاستهلاك المحلي، بينما يتم تصدير بقيّة الإنتاج إلى الخارج وخاصة نحو النرويج والدنمارك وأيرلندا.

لكن المُستفّز بالنسبة إلى التونسيين هو استحواذ الشركة الفرنسية "كوتوسال" على ثلثيّ الإنتاج ، واستغلال الشركة لسباخ تونس مقابل فرنك واحد للهكتار بمقتضى المادة 11 من الاتفاق المُبرَم بين الطرفين منذ 69 عاماً، بينما يصل اليوم السعر العالمي للهكتار الواحد إلى 15 دولاراً.

تأسّست الشركة العامة للملاحات "كوتوسال" بمُقتضى اتفاقيةٍ صادِرة بـ "أمر علي" عن الباي/الملك، في 3 أكتوبر 1949، بغرَض استخراج الملح البحري من الأراضي الدولية في الجنوب التونسي لمدّة 50 سنة. انتهى العقدُ سنة 1989، إلا أنه تمّت مواصلة العمل بالاتفاقية على الرغمِ من عدم قانونيّتها.

تعترفُ وزارةُ الصناعة التونسية، أن هذه الشركة هي الوحيدة التي لا تخضع لـ "مجلة المناجم"، وهي حزمة قوانين تنظّمُ عمليةَ استغلال الثروات الطبيعية في تونس. والسببُ في ذلك هو أن عمليةَ الاستغلال للأرضِ بدأت قبل الاستقلال التونسي سنة 1956، لتصبح شركة "كوتوسال" غير مُلزمَة بقوانين استغلال الثروات المُتّبَعة مثل بقية الشركات. بينما المعقول هو إلغاء الاتفاق مع هذه الشركة بسبب انتهاء صلاحيته منذ سنة 1989، وتأميم هذه الثروة تحقيقاً لسيادة الدولة على ثرواتها. فبحسب العديد من الخُبراء، تتكبّدُ الدولةُ التونسية خسائرَ كبيرة في مستوى تأجيرِ السباخِ لصالحِ هذه الشركة، تفوق 1.97 مليار دولار سنوياً.

تستمرُ فرنسا في المحافظةِ على امتيازِ استغلالِ الملح التونسي منذ حقبة الاستعمار، ولم يتم تعديل الاتفاقية إلا من أجل مراجعة مساحة سطح امتياز الاستغلال كان في آخرها 15 يونيو 1975، ولم تشملْ مسألة العائِدات الماليّة ونصيب الدولة فيها.

غير أن حرمان التونسيين من عائِدات ثرواتهم الطبيعية لا يشمل فقط الملح، بل إن ملف النفط والغاز لا يزال هو الآخر لُغزاً كبيراً في تونس. أطلق ناشطون حملةً تحت شعار "وينو البترول"، منذ أكثر من ثلاث سنوات، وأعلن أصحابُ الحملةِ عن تشكيكهم في الأرقام التي قدّمتها الحكومة حول إنتاج البترول، مؤكّدين وجود نهبٍ لبترول بلادهم، ومطالبين الحكومة بنشرِ العقود التي تربط تونس بالشركات الدولية التي تستغلّ آبارَ النفط التونسية.

لم يستطعْ المستشار الرئاسي معز السيناوي إنكار حقيقة غياب الشفافية في ملفِ النفطِ والغاز، واعترفَ بوجودِ تقصيرٍ إداري في توفير الشفافية المطلوبة في القطاع النفطي. وكانت دعوة الأمين العام لاتحاد الشغل نور الدين الطبوبي المُتكرّرة إلى ضرورة اعتماد مبدأ الشفافية على كل الثروات الطبيعية الموجودة تأكيداً آخر على ذلك. من حق الشعب وقواه المدنية والسياسية أن يتساءل عن حقيقة ما يجري ، ومن واجب المسؤولين والمؤسّسات المُشرِفة على هذا القطاع الحيوي أن تقدّمَ الحقائق كما هي. فالحديثُ عن مسارٍ انتقالي ديمقراطي يصبح بلا معنى من دون اعتماد مبادئ الشفافية والحوكَمة في كل الملفّات ، لكشفِ حجمِ هذه الثروة الطاقية وإلى أين تذهب عائداتها من أجل استثمارها في تنميةٍ عادِلة.

لا تضعُ بعضُ الشركات البترولية عدّادات لقياس إنتاجها ، وتحيط بمقار هذه الشركات حراسة أمنية مُشدّدة يصعبُ الوصول من خلالها إليها. وهذا بحدِ ذاته ضاعَفَ الشكوك حول حجم الثروة النفطية والغازية في تونس. ورغم إعلان وزير الطاقة والمناجِم نشر الوثائق التعاقُدية لكافةِ السندات سارية المفعول في مجال المحروقات وعددها 82 عقداً موزّعة على 29 رخصة و53 امتياز استغلال، يُشكّك المُطّلعون في تلك الأرقام التي تقدّمها الحكومة، حيث أن عددَ تلك العقود لا يتناسبُ مع حجم إنتاج المحروقات المُقدّر، حسب الإدارة العامة للمؤسّسة التونسية للأنشطة البترولية، بـ47 ألف برميل نفط في اليوم و6.7 ملايين متر مكعب من الغاز.

ينصّ الفصلُ 13 من الدستور التونسي على أن الثروات الطبيعية ملكٌ للشعبِ التونسي، وتمارسُ الدولةُ السيادةَ عليها باسمه، وتُعرضُ عقودَ الاستثمار المُتعلّقة بها على اللجنة المُختصّة في مجلسِ نواب الشعب، ثم تقدَّم الاتفاقيات التي تُبرَم في شأنها إلى المجلس للموافقة. لكن لا أحد يعرف حقيقة حجم تلك الثروة، بعد أن تمَ حذفُ سطرٍ من ذلك الفصل يوجِبُ نشرَ تلك العقود في الإعلام الرسمي. ولا توجدُ بيانات رسمية وافية حول إنتاج تلك الشركات الأجنبية وعائِداتها ونصيب الدولة منها ومصارف تلك العائِدات.

ليست المطالب بضرورة تأميم الثروات الطبيعية مجرّد ترفٍ، بل لأن ذلك يُحقّق قبل كل شيء سيادةَ الدولة على ثرواتها. فالحكومات التي تستمر في الالتزام باتفاقات مرّت عليها عقود طويلة ولا تعرف حجم إنتاج الشركات التي وقَّعت معها تلك العقود وتمتنع عن نشر عائدات تلك الثروات لا يمكن الحديث عن تمثيلها لمطالب الشعب.

لقد أدّى ذلك، إضافة إلى عوامِل أخرى، إلى انحسار الدور الاقتصادي لتونس على الصعيد العالمي وتحوّلها إلى سوقٍ مفتوحة للمُنتجات الأوروبية، من خلال التبادُل الحر غير المُتكافئ. وأصبحت البلاد ورشة عمل صناعية للشركات الأجنبية وخزّاناً لليد العاملة الرخيصة لصالح أنشطة المناولة الأوروبية. بل إنها باتت وجهة مُفضّلة للتجارة الموازية وتبييض الأموال والمُنتجات المُهرّبة. وهو ما فاقمَ العجز المالي والتجاري والمديونية ، وأنتج خضوعاً غير مقبول لشروط صندوق النقد الدولي المُجحِفة..

يمكن لمطلب تأميم الثروات الطبيعية حل مشكلة التشغيل بصفةٍ جذرية. فالثروة المُتوافرة في البلاد، والكفاءات البشرية القائمة واللازمة لإدارتها يمكنها أن تُخرجها من نزيف المديونية وهجرة الأدمغة واليد العاملة المُتخصّصة التي لم تجد سوى باب الهجرة لمواجهة أوضاع الفقر.

بل إن تلك السيادة على الثروات الوطنية يمكنها حل مشاكل البنية التحتية من طُرقات ومطارات وخدمات صحيّة ومدارس وجامعات ومعاهِد مُختصّة ومراكز بحوث علمية..

لا تُمثّل السيادة على الثروات الوطنية هدفاً بذاتها فحسب، بل لأن تلك الثروات يمكن أن تكون رافِداً قوياً للصناعات والأنشطة ذات القيمة المُضافة والمُرتبِطة بتلبية الاحتياجات الأساسية من الحبوب والمواد الاستهلاكية والتجهيزات المُرتبِطة بصناعة النفط والغاز والزراعة والصناعات الأخرى المختلفة.. وهذا ما يسمح بتحويل فائِض الثروات المادية والبشرية نحو الخارج.

من غير الممكن التخلّص من الهيمنة الأجنبية من دون قرارات سيادية جريئة تُعيد للدولة حقها في التصرّف في ثرواتها بالطريقة التي تحقّق لشعبها حياة كريمة ، بعيداً عن الاستلحاق الاقتصادي الذي يجرّ وراءه دائماً تبعيات متعدّدة علمية وثقافية وسياسية.