صندوق الهدايا الوهّابية وتجديد البرنامج الأميركي في العراق

إن مصالح أميركا في "الخيارات الصعبة" قد فضحها المؤرِّخ الأميركي "جاكسون ليرس" من خلال كتابه الشيّق "خرافات الوفرة والتاريخ الثقافي للإعلان الأميركي" وذلك بالبرهان على أن أميركا تريد بناء موقف عقلاني لتبريد حرارة سياساتها الخارجية العدوانية حيث يردِّد بسخرية كلمات المسرحي الإغريقي "أسخيلوس" بأن الحروب هي مصارف محمية واحتياطي الذهب فيها هي اللحوم البشرية المقطَّعة.

تيد كروز: لنُحارب داعش عن طريق الأنظمة وبعدها نغيِّرها بواسطة "معارضاتنا" الخاصة

يقول جورج فريدمان، الشهير بعلاقته مع المُخابرات الأميركية، بأن المنطقة العربية فقدت المبادرة في الحفاظ على الاستقرار ومن هنا فإن الوجود الأميركي هو الحل الوحيد لإعادة التوازن المحلي والإقليمي. بهذا المعنى وضمن قانون الصراع غير المتوازي فإن البقاء الأميركي هو الوجه الثاني للوجود العسكري لدولة "داعش" قبل القضاء على مراكزها الأساسية في سوراقيا، ولاسيما في حقول النفط الحدودية. وهو تطبيق رأي عضو مجلس الشيوخ الأميركي تيد كروز: لنُحارب داعش عن طريق الأنظمة وبعدها نغيِّرها بواسطة "معارضاتنا" الخاصة. والحقيقة أن هذه الخطة متكاملة مع الوضع الجيوسياسي السوقي للولايات المتحدة.

إن مصالح أميركا في "الخيارات الصعبة" قد فضحها المؤرِّخ الأميركي "جاكسون ليرس" من خلال كتابه الشيّق "خرافات الوفرة والتاريخ الثقافي للإعلان الأميركي" وذلك بالبرهان على أن أميركا تريد بناء موقف عقلاني لتبريد حرارة سياساتها الخارجية العدوانية حيث يردِّد بسخرية كلمات المسرحي الإغريقي "أسخيلوس" بأن الحروب هي مصارف محمية واحتياطي الذهب فيها هي اللحوم البشرية المقطَّعة.

إن الخبير الأميركي "باري بوزان" يعتقد بضرورة أن ينتقل العالم من مرحلة "مخاطر التوازنات"، توازن القوى أو المصالح، إلى مرحلة "توازن المخاطر" والتهديدات. وأن نهاية الحرب الباردة قد نجم عنها التركيز المكثّف حول ضرورة بناء "المجموعات الأمنية" اللامركزية الإقليمية أو المناطقية وحتى المحلية، وأن الصراعات داخلها وفي ما بينها يجب أن تبقى محدودة في تأثيراتها ضمن نطاقها الجيوسياسي ولا تنتقل إلى داخل المركز الأمبريالي الغربي. وهذا بالضبط ما تنفّذه السياسة السعودية الوهّابية في المنطقة وتحديداً في سوريا والعراق وخاصة بعد تفعيل العلاقة السرّية بينها وبين إسرائيل. إن هدفها العملي هو بناء مجمّعات عسكرية – أمنية من "المكوّنات"، وهو تتمة للجهد الأميركي العام الذي يعبّر عنه بسياسة "النأي" عن محور المقاومة المُتمثّل بسوريا وحزب الله وإيران. وقد كشف دبلوماسي سعودي عن توجيه دعوات رسمية إلى 100 شخصية عراقية من رجال الأعمال والمُختّصين في المعلومات وشيوخ العشائر وضباط في الجيش العراقي السابق لزيارة الرياض. وبحسب المكلّف بالملف السياسي في السفارة السعودية في بغداد مشعل بن متعب العتيبي فإن من بين المدعوّين قادة من كل "المكوّنات" المعروفة.

والطريف أن أحد الرموز السياسية المهمة في العراق قد كشف في مقابلة تلفزيونية محتويات صندوق الهدايا الذي منحته إياه المملكة الوهّابية حين زيارته التعادلية لها قبل عدّة أشهر. لقد قال إنها تضمّنت قطعاً من أستار الكعبة وبخور!! لكنه فعلياً صندوق "بندورا " الشهير، وهو يتضمّن نصاً ما قاله: أولاً - تطرّق السياسي خلال اللقاء إلى التوتّر السعودي الإيراني، بالقول إنه "ضد التصعيد في المنطقة، وإذا ما وقعت أية مواجهة مع حزب الله فإنه لن يكون طرفاً فيها". ثانياً - أعلن دعمه لتولّي رئيس الوزراء الحالي، ولاية ثانية، متوقّعاً في الوقت ذاته نجاحه في المرحلة المقبلة. وأضاف أنه "قادر على أن يدير العراق"، وبأن يعلن "استقلاله"، ولم يوضح معناها، قريباً. ثالثاً - وشدّد على أن "الحكومة القادمة يجب أن تكون تكنوقراط مستقلّة سواء كانت إسلامية أم علمانية"، لافتاً إلى أن "الإسلاميين فشلوا في الحُكم في العراق ولنجرِّب التكنوقراط المستقل". وأكّد أنه "سينأى بنفسه عن السياسة في المرحلة المقبلة"، داعياً إلى تغيير "وجوه الطبقة السياسية الحالية، لأن بقاءها سينهي العراق". رابعاً - وشدّد على ضرورة احتواء التشكيلات المسلّحة في الأجهزة الأمنية والمؤسّسات المدنية والخدمية، مستثنياً من ذلك من أسماهم "المليشيات الوقحة" الذين يتشبّهون بالإرهاب.

إن "النأي" الذي يتحدّث عنه هو في أفضل الأحوال نوع مشوّه من الوسطية السياسية التي يطرحها الوزير الأول الآن حين صرّح بأن: "التصعيد الأخير في المنطقة خطير، والعراق لا ينحاز لهذا الطرف أو ذاك، وموقفنا هو الدعوة للتهدئة والابتعاد عن المحاور" . وهو عملياً يقوى ويتمرّس ويبدو راديكالياً حين يشتدّ التيار المُحافِظ، ويدعو إلى التسويات ويبدو مُحافظاً، حين ترتفع موجة الراديكالية.

بيد أن "المكوّنات" حالياً، ومنها الكردية السياسية التي طارت إلى طلب النجدة من فرنسا إيمانويل ماكرون الوسطية، انفلتت سياسياً وأصبحت تتصرّف وكأنها إقطاعيات مستقلّة، تستند إلى القوى الإقليمية الوهّابية وتركيا وكل منهم إلى صاحبه الذي يرعاه، وبعد أن فقدت تعاطف الناس وأصبحت تعاني من ضمور القدرة الطوائفية وتهدم الاستطاعة السياسية. وفي ظلّ التأكيد السياسي الأميركي بأن شعار أميركا الآن هو الكفاح من أجل العدالة، سيصبح من الصعوبة القصوى أن تعطى حكومة بغداد الفرصة بأن تتطوّر إلى دولة للجميع. ناهيك على أن هذه الحكومة وخلال العقد السابق، ومازالت، أقوى مما يريده الخصوم وأضعف مما يتمنّاه الحلفاء. وهي مؤخراً، ولم تصمت مدافع الحرب على داعش ولم تحل عقدة الشمال الكردي، بدأت تتحدّث عن نيّتها فتح ملفات الفساد المالي، وكأنها لا تدرك بأن الفشل السياسي والفساد المكتبي في تطبيق الواجبات هما أقصر الطرق للفساد المالي. فالدولة يمكنها بحُكم وظيفتها التاريخية أن تسيِّر الأعمال من دون حكومة، لكن الحكومة لا يمكنها أن تكون بديلاً للدولة، وإذا ما تغوّلت والتهمت وظائف الدولة التاريخية يحصل الانهيار الشامل، خاصة حين لا يوفِّر لها الاحتلال الأميركي الزمن الضروري لتحقيق كل هذه المُستلزمات.

لقد استخدمت أميركا جميع المؤهّلات لدفع التابعين لها إلى الاعتقاد بحقيقة ما هو موهوم ومن صنع الخيال. وهي تعرف بأن طريق الناس يمر عبر القيادات وهذه معظمها معطّل وعبر الإعلام ينقلون فيروس الخنوع إلى الناس، مُتأمّلين أن كل شيء سيتغيّر كما يحدث في حكايات العفاريت، حيث السماح بالقول "إننا نعيش بصعوبة" وهو كلام يجعل، في ظلّ الضغوطات العسكرية الأميركية المُتكرّرة، بالتزوير سبيل العيش أكثر سهولة.

في هذه الأجواء هل تستطيع أميركا أن تستخدم الوهّابية الخليجية كرافِعة تضغط على المكوِّنات من أجل الموافقة على بقاء القوات الأميركية وقواعدها في البلاد. والخوف دائماً أكبر من الضرر للذي لا يعرف ما سيحصل له، "أينما توجّهه لا يأتى بخير"،  ولكنه يدرك متأخراً بأنه يستحقّه في ظلّ غياب قوت الناس وقوّتهم. حين ذلك يصحّ على وضع البلاد والعباد المثل الشهير: "وقعت منارة الإسكندرية قال الله يسلّمنا من غبارها".