الإرادة الحرّة شرط نجاح المصالحة الفلسطينية

بعد كل الترحاب بالنشاطات الهادفة إلى تحقيق مصالحة بين فصيلي فتح وحماس، وبعد الرجاء بتطبيق ما تم الاتفاق عليه، لا بد من الأخذ بالحسبان عوامل قد تطيح الاتفاق وتحول دون تطبيقه وعلى رأسها التأثيرات الخارجية العربية وغير العربية.

من الأجدى أن يناقش المتحاورون الفلسطينيون مسألة تحرير القرار الفلسطيني قبل أن يوقّعوا اتفاقيات يقرّر الآخرون مصيرها

وبداية أذكر أن الفلسطينيين كانوا موحّدين جيّداً وبصلابة قبل قيام السلطة الفلسطينية على الرغم من أن الاحتلال كان موجوداً في كل ركن وزاوية في الضفة الغربية، وكان دائماً متوثّباً لاتّخاذ مختلف الإجراءات القمعية التعسّفية ضدّهم. والسبب في صلابة الوحدة الوطنية الفلسطينية أن الفلسطينيين في الضفة والقطاع دافعوا عن إرادتهم السياسية الحرّة وحموها بدمائهم، ولولا التضحيات الجِسام لما استطاعوا الصمود عبر عشرات السنوات. لقد كان قرارهم بأيديهم، وكلما تم اعتقال مجموعة أو خلية أو بؤرة قيادية ظهرت مجموعة بديلة تواصل النضال والصمود والتحدّي. لم يتمكّن الاحتلال من كسْر الإرادة السياسية للشعب ، وكان لزاماً عليه أن يوظّف جزءاً كبيراً من جيشه لمواجهة المواجهين وإحباط مخططاتهم الوطنية. لقد كان الاحتلال بالنسبة له مكلفاً وكان هو عاجزاً، وظهر دائماً أمام العالم كدولة تمارس الاحتلال في زمن الحرية وتقرير المصير.

وكما كانت الإرادة السياسية الحرّة شرطاً لاستمرار الصمود والمقاومة في الأرض المحتلة/67، فهي ما زالت حتى الآن شرطاً أساسياً وحتمياً لنجاح المصالحة الفلسطينية. وقد رأينا كيف تحرّك الكيان الصهيوني بشروط كثيرة لكي تستمر العملية التفاوضية العبثية. قرّر المجلس الوزاري الصهيوني المُصغّر أن استمرار العملية التفاوضية، أو بالأحرى عدم التدخّل في المصالحة الفلسطينية، يتطلّب تلبية شروط على رأسها نزع سلاح حماس وبالتالي نزع سلاح مختلف الفصائل الفلسطينية المقاتلة، واعتراف حماس بالكيان الصهيوني، وإعادة أسرى الصهاينة سواء كانوا جثثاً أو أحياء، وقطع علاقات حماس مع إيران وحزب الله، ومنع تهريب السلاح، واتّخاذ إجراءات تُمكّن السلطة الفلسطينية من الإشراف على الأمن في غزّة وتمكّنها من السيطرة على تدفّق الأموال.

وماذا لو رفض المتّفقون الفلسطينيون هذه الشروط عملياً؟ حركة حماس رفضت الشروط ، وكذلك فعلت السلطة الفلسطينية، لكن هل سيطبّق هذا الرفض ميدانياً؟ بوضوح، لا توجد مقوّمات ميدانية وعملية لترجمة الرفض عملياً. حماس في وضعها الحالي رافضة لكل المعايير الصهيونية ومعايير الرباعية الدولية، وهي تستمر في التسليح وبناء القوة، وبناء علاقات مع محور المقاومة والسبب واضح وهو أنها تمكّنت من تحصين نفسها عسكرياً، وإلى حد ما أمنياً وتستطيع أن تقول لا مع الاستعداد لدفع ثمن هذه اللا. لقد سبق لقطاع غزّة أن دفع أثماناً عالية جداً في ثلاث حروب متتالية فشل فيها الكيان  تماماً على الرغم من قلّة العتاد والسلاح. والسبب في نجاح المقاومة الفلسطينية هو توافر الإرادة والتصميم على البقاء والصمود.

ما تستطيع حماس تحمّله لا تستطيع السلطة الفلسطينية تحمّله وذلك بسبب غياب الإرادة السياسية الحرة إلى حد كبير. والإرادة السياسية الحرة لا تتأتّى بقرار سياسي صادر عن رئيس دولة أو حكومة، وإنما هي نتاج عملية تراكمية من التأهيل والتدبير والتخطيط من أجل أن يكتسب الشعب القوة الكافية للتلاحم مع قيادة ترى في نفسها ساهرة على كرامة الناس وحقوقهم. الشعب الفلسطيني في غزّة مؤهّل ومُهيّأ للصمود وتلقي الضربات وتحمّل قسوة الحياة، أما الضفة الغربية فليست مؤهّلة ولا مُهيّأة لتحمّل شظف العيش وضيق الأحوال المادية. لقد اعتمدت الضفة الغربية على مساعدات مالية من الخارج، وعلى أموال الضرائب والجمارك التي يُجبيها الاحتلال من المواد المستوردة للفلسطينيين ويدفعها للسلطة الفلسطينية بعد إجراء الخصميات في نهاية كل شهر. لقد غرق الناس في الضفة الغربية في الاعتماد على الآخرين في لقمة خبزهم، وغرقوا في القروض من المصارف الموجودة في فلسطين بحيث أن نسبة كبيرة من الموظفين لا يكادون يفون بمتطلبات المعيشة. وللأسف أن أغلب القروض كانت تذهب لمشتريات استهلاكية وليس للقيام بنشاطات إنتاجية. وبسبب سياسات التوظيف والاستيراد والتصدير التي تتّبعها السلطة الفلسطينية تقلّص الإنتاج في الضفة الغربية وارتفع منسوب الاستهلاك، وذلك على عكس الوضع في غزّة بحيث وجد الناس أنفسهم مدفوعين نحو الإنتاج لتوفير أسباب المعيشة.

المعنى أن الصهاينة سيتوقّفون عن دفع أموال الجباية للسلطة الفلسطينية، وكذلك سيفعل الأوروبيون والأميركيون بعد أن يقوم رئيس وزراء الكيان بممارسة الضغوط عليهم عبر زيارات وعبر الجمعيات اليهودية والصهيونية المتواجدة في الدول الغربية. وسيقوم الكيان بالتعاون مع شبكات الرقابة المالية العالمية بمنع تحويل الأموال للفلسطينيين، ومن الوارد جداً أن تقوم دول عربية بمراقبة حركة الأموال النقدية وتحول دون دخولها إلى الضفة والقطاع، وسنجد رقابة عربية وربما فلسطينية مشدّدة على حركة المال ما سيفاقم الوضع المعيشي في الضفة الغربية. وإذا حصل ذلك فإن السلطة الفلسطينية ستعاني عجزاً يجعلها غير قادرة على الوفاء بالتزاماتها المالية تجاه موظفيها ما يهدّد وجودها.

من تجاربنا ومعرفتنا بتطوّرات الأوضاع في الضفة، الكيان الصهيوني لن يسمح بانهيار السلطة ما دام مستفيداً من وجودها، لكنه يستطيع أن يصيبها بالشلل وتأليب الموظفين ضدّها، وعادة تضطر للتراجع والانسحاب والخضوع لإرادة مَن يتحكّمون بالمال. لم تعمل الضفة الغربية على بناء اقتصاد متناسب مع وجودها تحت الاحتلال، ولم يطرأ تقدّم اقتصادي في مختلف المجالات ضمن رؤية الاعتماد على الذات. بل ما حصل أن الثقافة الاستهلاكية قد تطوّرت في الضفة الغربية على حساب الثقافة الوطنية ما يلحق كبير الضرر بالقضية الفلسطينية.

علينا أن ندرك أن العدو قادر على التأثير المباشر والقوي بقرارنا السياسي، وهو قادر على إفشال المصالحة الفلسطينية ضمن الظروف الراهنة، وهو قادر على إحباط محاولات تحقيق الوحدة الوطنية. وإذا كان الفلسطينيون معنيين بالخروج من تحت وطأة الاحتلال، فإن عليهم إعادة ترتيب مختلف أوضاعهم الأمنية والعسكرية والاقتصادية والاجتماعية والتربوية نحو إعادة بناء المجتمع الفلسطيني ليكون قادراً على تحمل مسؤوليته التاريخية في انتزاع حقوقه. وما لم يقم الشعب بإعادة صوغ مختلف البرامج القائمة حالياً لن يكون بمقدوره الادّعاء بأنه يملك إرادة سياسية حرة وقراراً مستقلاً. وسيبقى بذلك يتجرّع الإهانات المتكرّرة من قِبَل الصهاينة الدخلاء.

لهذا كان من الأجدى أن يناقش المتحاورون الفلسطينيون مسألة تحرير القرار الفلسطيني قبل أن يوقّعوا اتفاقيات يقرّر الآخرون مصيرها