بين الهمجيّات الغربية والتوحّش التكفيري
تسبّبت الانقلابات العسكرية التي دبّرتها المخابرات الأميركية في بلدان عديدة بمقتل الملايين من البشر، منهم مليون شخص في أندونيسيا وحدها، إثر انقلاب سوهارتو مدعوماً بجماعات أصولية إسلاموية، درّبتها هذه المخابرات بتمويل دولة نفطية عربية.
فالربط هو سياسي – اقتصادي – أنثروبولجي لمجمل مراحل الصعود الرأسمالي وصولاً إلى أيامنا هذه، وكيف أنتجت مطابخه أشكالاً وحشيّة موازية في الجنوب العالمي ومنها الدائرة العربية والإسلامية. 1- منهجياً يُشار إلى مفهوم الهمجيّة والبربرية منذ الإغريق وروما إلى فكرة الغوييم التوراتية، إلى الداروينية الاجتماعية، كما يُشار إلى فكرة الزمن الدائري في شكلها الأخلاقي، القِيَمي، أو الأفلاطوني، فإبن خلدون وهيغل وفيكو، وفي شكلها الحلزوني (ماركس، شبنغلر، إدوارد سعيد). ومن المُقاربات الأخرى ذات الصِلة، في ما يخصّ الدورات الحضارية، عدميّة نيتشة وحروبه مع الأيديولوجيات والأديان، قوميّة شبنغلر وجماعات العزاء والإحياء القومي. وأمميّة روزا لوكسمبورغ (الإشتراكية أو البربرية) ونهاية التاريخ عند الرأسمالية (هيغل وفوكوياما)، والإنسانية (روسو)، وخصومها (هوبز)، وجاهليّة سيّد قطب والمودودي. 2- في ما يخصّ الهجميّات العُليا (الرأسمالية في حُقبتها، الصناعية وما بعد الصناعية الإمبريالية) فقد ترافقت الحُقبة الأولى مع القمع الوحشي الداخلي للثورات العمّالية، ومع القمع الوحشي الخارجي بذريعة (تمدين المتوحّشين بالمدافع). وقد أشركت المتروبولولات في هذه الحرب الرحّالة والأنثروبولوجيين والعديد من الأدباء والفنانين المغامرين، كما أشركت المتروبولات (العلمانية) رجال الدين كوعّاظ ضدّ المتوحّشين الكفّار، وقد انكشفت أكاذيب التمدين بالجرائم المروّعة ضدّ البلدان والمناطق المُستهدَفة (قارات بكر وموارد وأسواق) ومن ذلك إبادة ملايين الهنود الحمر بالبنادق وفتح السدود وبطانيّات الجدري، كما بإجبار الصين على فتح أسواقها أمام الأفيون، ونهب الهند وتحويلها من بلد غنيّ إلى بلد من الجياع. في الطور الثاني من الرأسمالية، الطور الإمبراطوري الإمبريالي (ما بعد الثورة البرجوازية، وما بعد الصناعية وما بعد المجتمع وما بعد الدولة القومية والعقد الاجتماعي، وما بعد العقل..) فقد ترافق هذا الطور مع أشكال غير مسبوقة من الإبادة الجماعية والهمجيّة، طالت البلدان الرأسمالية نفسها (الحرب العالمية الأولى والثانية)، وما رافقها من ظواهر فاشيّة ونازيّة ومكارثيّة واستخدام أميركي للقنابل الذريّة ضدّ القوة الرأسمالية المُنافِسة في آسيا (اليابان). خارجياً وبالإضافة للاستعمار المباشر، وللظاهرة الصهيونية النازية، ولسياسات نهب الموارد وتقسيم العمل الدولي (الإزاحات الدورية للصناعات الملوّثة أو التي تتّسم بانخفاض في الأرباح والقيمة المُضافة والزائدة)، فقد شهد العالم فظائع أميركية غير مسبوقة بحق الشعوب والبلدان المُستعصية على التبعية والخضوع، ومن ذلك، استخدام السائل البرتقالي لإبادة الغابات والبشر في فيتنام، واستخدام اليورانيوم المنضّب في العراق (حتى الآن تقدّر نسبة الولادة المشوّهة في فيتنام والعراق بحوالى 10% على الأقل من مُجمل الولادات). كما تسبّبت الانقلابات العسكرية التي دبّرتها المخابرات الأميركية في بلدان عديدة بمقتل الملايين من البشر، منهم مليون شخص في أندونيسيا وحدها، إثر انقلاب سوهارتو مدعوماً بجماعات أصولية إسلاموية، درّبتها هذه المخابرات بتمويل دولة نفطية عربية. وذلك غير مئات الآلاف في انقلابات وثورات مُضادّة في تشيلي ضدّ الرئيس المُنتخب، سلفادور اللندي، وفي بلدان أخرى. ويُشار هنا إلى ما يُعرف بالخيار السلفادوري للسفير الأميركي نيغروبونتي، والذي أدّى إلى مقتل عشرات الآلاف بالبلطات والإعدامات الجماعية. ومن أشكال الإبادة الأخرى التي نظمّتها المخابرات الأميركية، الإبادات الناجمة عن المختبرات والفيروسات المختلفة والأدوية موضع التجريب، ناهيك بتداعيات ونتائج سياسات الإفقار وتحطيم الطبقة الوسطى التي ترعاها مؤسسات مثل البنك وصندوق النقد الدولي ووكالة التنمية الأميركية (يو إس إيد) وبقيّة الصناديق والسياسات التي تشترك العديد من البلدان الأوروبية فيها وعلى رأسها بريطانيا. 3- أما الهمجيّات الدنيا، فهي من جهة تكمل ما تقوم به الهمجيّات العُليا من إبادات جماعية ومن حجز للتطوّر، وإشاعة الجهل والتخلّف، وتشترك معها في الجذر التوراتي التلمودي لإقصاء الآخر وتكفيره باعتباره (غوييم) أو حالة من البهائم برسم الاستغلال والذبح مقابل الشعب المختار (اليهودي) والفرقة الناجية (التكفيرية) والجنس الأشقر الرأسمالي. ومن جهة أخرى تختلف عنها من حيث التشخيص لمكوّناتها. فإذا كانت الهمجيّات العُليا الرأسمالية تمثّل ما بعد الثورة الصناعية وما بعد الهوية الدولية الحديثة، وما بعد المجتمع المدني، وما بعد العقل... إلخ. فإن الهمجيّات الدنيا تمثّل حالة ما قبل الحضارة وما قبل العصر الصناعي، وما قبل الدولة والمجتمع، وما قبل العقل، حيث تتمظهر الغريزة العدوانية بأشكال طائفية يقينية. إن هذه الصورة بالضّبط هي المطلوبة للمتروبولات الرأسمالية واليهودية العالمية، لتبرير سياساتها القديمة الجديدة إزاء الشرق: متوحّشون يحتاجون إلى تمدين وتدخّل عسكري بالقوّة. وتلاحظ دراسات عديدة أنه باستثناءات قليلة من المُتعلّمين ودارسي الشريعة، فإن غالبيّة الجماعات الأصولية التكفيرية تنحدر من أصحاب أسبقيات جنائية جرى تجميعهم على غِرار نُزلاء السجون الذين اشترتهم الشركات الأوروبية، بُعيد اكتشاف كولومبوس للقارة الأميركية والحاجة إلى الاستيطان وإبادة الهنود الحمر في القارة. وكانت الشركات المذكورة تُخضِع هؤلاء النُزلاء لدورات (وعظ) من قِبَل كهنة ورجال الدين وتلقينهم، إنهم ذاهبون للتخلّص من الكفّار، وإقامة الأرض الموعودة، مع حقّهم في امتلاك الأراضي، واستباحة نساء الهنود الحمر بوصفهن سبايا، وهذا بالضّبط ما قامت به جهات معروفة (نفطية) عندما تفاهمت مع دول عديدة للإفراج عن نُزلاء السجون الجنائية وتدريبهم وإعادة (تأهيلهم) دينياً (للجهاد) في أفغانستان ثم سوريا.