أخلاقيات مارد انتصاراته مُنجزَة

تدخل معركة تحرير الجرود أيامها الأخيرة، بينما تدور المعارك الصعبة على جبهات الحدود في سوريا مع تركيا والأردن وإسرائيل، وهي لا تزال قابلة للأخذ والرد بما لا يخلو من التباسات. أما على الحدود مع لبنان فقد حسمها حزب الله والجيش السوري بانتصار منجّز.

تجنب حزب الله مخيمات النازحين في عرسال وسمح لمقاتلي "سرايا الشام" بالوصول إلى عائلاتهم عندما وافقوا على الاستسلام
تحوّل لا لُبس فيه باتجاه المزيد من التعاطف الشعبي العربي مع حزب الله بعد معركة تحرير الجرود. فهو لم يبلغ التأييد الواسع الذي وصل إلى السماء بانتصار الحزب على العدوان الإسرائيلي، لكنه تأييد يكسر الانحسار الذي تعرّض له الحزب في خارج البيئة الحاضنة تحت وطأة التحريض المذهبي والخراب الذي عمّ بلاد العرب وأبعد.
ولا ريب أن شبه الإجماع في لبنان على التعاطف مع الحزب من جديد، هو عيّنة عن التعاطف الشعبي العربي في ظروف شديدة القساوة والتعقيد التي تَحوْل من تجاوز أبواب البيوت إلى الشوارع. الانتصار على "جبهة النصرة" في الجرود ليس كالانتصار على إسرائيل في الموروث الجمعي العربي، ولاسيما أن التمجيد الإعلامي الطويل بالنصرة رفعها إلى مصاف حامي الحمى عن العرب والمسلمين المهددين من إيران وحلفائها. لكن هذه السردية - الأسطورة التي انتشرت وتعمّمت كبديهية هي التي انكسرت في معركة تحرير الجرود، وما يدلّ على حطامها أن صوتاً واحداً لم يخرج من بلاد العرب والمسلمين يتجرأ علناً على لوم حزب الله في المعركة، وأن بيان كتلة نيابية لبنانية معادية للمقاومة وسوريا وإيران، خرج معزولاً عن تحالفاتها بمنطق ملعثم سقيم، كأن يتحدث عن "المناطق التي تنسحب منها النصرة" في وقت اندحارها على أيدي شبان العماليق. كشف مسار معركة تحرير الجرود بؤس أخلاقيات توتير العصبيات وغرائز القطيع بالإفتراء البدائي على مارد أنفّته تناطح السحاب فتمزّقت السردية نُتفاً وأشلاء. فلم ينتقم حزب الله من المدنيين بحسب الإفتراء الشائع وما يشحذه الإعلام المعادي "بالتخويف من مجازر طائفية"، بل أخذ مقاتلين من "سرايا الشام" وافقوا على وقف إراقة الدماء، إلى عوائلهم في مخيمات النازحين. ولم يتشفَّ من الأسرى كما تتشفّى النصرة وداعش في قتالهما أو مع المجموعات الأخرى، بل عالج أسرى ونقل البعض الآخر إلى مستشفيات الدولة وابتعد قدر الإمكان عن مخيمات النازحين السوريين وعن مدينة عرسال لتجنيب من لا ذنب له في الحرب شظاياها. أخلاقيات حزب الله تعلو على هذه الأخلاقيات المألوفة بين الجيوش الراقية تجاه حماية المدنيين ومعاملة الأسرى وغيرها، فهو يسعى إلى تقليل إراقة الدماء في المعركة كما حاول بالتفاوض مع النصرة قبل بداية المعركة، وكما يحاول في نهاية المعركة في المربع الأخير "لأننا نريد أن نأكل عنباً وليس قتل الناطور"، بحسب تعبير السيد حسن نصرالله. ولعل هذه الأخلاقيات في توفير إراقة الدماء على المقاتلين المعادين، ليست أخلاقيات إنسانية فقط ولا رحمة دينية وحسب، بل  ربما تنمّ أيضاً عن أبعاد استراتيجية لا تفقد الأمل من كسب مقاتلين معادين حين ينجلي أمامهم ما أدّى بهم إلى التغرير. البوصلة التي يؤكد عليها حزب الله هي باتجاه فلسطين ومواجهة إسرائيل، ومن أجل هذا الهدف الكبير في مواجهة إسرائيل ومن ورائها الولايات المتحدة الأميركية، يسعى حزب الله إلى حشد ما يمكن حشده من طاقات الأمة جمعاء مع الحلفاء ومع أعداء اليوم الذين يمكن أن يكونوا حلفاء المستقبل إذا انهزمت قياداتهم ومشاريع ارتباطاتهم وتبعيتهم. وهو يعوّل على هذا الأمر في استراتيجية بعيدة الأمد إذا لم تكن ممكنة في المدى القصير. ولعل إسرائيل ومن ورائها الولايات المتحدة تتخوّف من حزب الله ليس فقط بسبب تنامي قدراته القتالية وقدرته على الردع والانتصار، بل أيضاً بسبب هذه الاستراتيجية الثابتة بصلابة على الصراع الوجودي وبسبب تحضير حزب الله كل ما يلزم من عديد الأمة وعتادها لساعة الحقيقة. في هذا المسار تدخل معركة تحرير الجرود، بينما تدور المعارك الصعبة على جبهات الحدود مع سوريا تمهيداً لما ترسو عليه سوريا في حدودها الجغرافية ونظامها السياسي؛ فالجبهات الثلاث الأخرى على الحدود مع تركيا ومع الأردن وإسرائيل وعلى الحدود العراقية السورية - الأردنية، لا تزال قابلة للأخذ والرد بما لا يخلو من التباسات. أما على الحدود مع لبنان فقد حسمها حزب الله والجيش السوري بانتصار منجّز أو قاب قوسين أو أدنى.