وصيّة الوداع لكاسترو

كانت كوبا أكبر وأوسع من رِمال وشاطىء وقناديل تنوس في أكواخ الصيّادين ..وكان سانتياغو إنثيال الضوء البعيد، وأول الندى على عُشب الحطّابين... وكم طال به الانتظار، لا سؤال ولا جواب في عتمةٍ ألقت سوادها على بياض السكر والياسمين..

مع كاسترو، تعالت الأجراس، ونما العُشب بين أصابع الكتاب: ماركيز، نيرودا، غيين، وكاربنتيه..
كما نجمُ المجوس فوق الجليل، كما البشاراتُ المُقدّسة في أساطيرالأولين، كانت الأنتيل على موعد مع المُخلِّص المنذور للفقراء والعمّال والفلاحين... وكان على شامان ما أن يضرب الرمل بعصاه ويستشرف الآفاق وبطون الغيب في الجزيرة المسحورة .

كان شامانات النصوص يجهّزون المسرح، للرجل المُتواري بين بحرين كما أوديسيوس... لا ساحرات ولا بتلاتٍ تغوي البحارّة بالنسيان، ولا ثيران مُجنّحةً بين الغيم والأعماق توقف الملاّح ونبض الجزيرة في خافقيه.

في روايات البحر، همنغواي، وملفيل، ظِل سانتياغو، كما آخاب يُجدّف ويُجدّف ويُغنّي حتى لا ينام وتأتي الحيتان على قارب ، كما  الصليبُ في درب الآلام، وعلى سمكة، كما سمكة المسيح محروسة بالتعاويذ المُباركة وطَرد الشيطان من شجرة التفّاح..

كانت الساعات بطيئة، ثقيلة، وجارحة، كما الحِبال في كفّ الصيّاد، تحزّ لحمه وعروقه وتُدمي يديه، فيصرُخ كما ابنُ الإنسان على لوح المسامير. قد يُقتل الإنسان ولكنّه لا يُهزم.

كانت كوبا أكبر وأوسع من رِمال وشاطىء وقناديل تنوس في أكواخ الصيّادين ..وكان سانتياغو إنثيال الضوء البعيد، وأول الندى على عُشب  الحطّابين... وكم طال به الانتظار، لا سؤال ولا جواب في عتمةٍ ألقت سوادها على بياض السكر والياسمين..


مع كاسترو، الإسم السرّي لـ سانتياغو همنوغواي، لم تخمد الأجراس في الثكنة الأولى ولا على متن "الغرانما"، كما أخمدت أجراس زاباتا في المكسيك والسلفادور وغواتيمالا، ولا صوت ولا صدى من زنازين الجنرالات وبلطات نيغروبونتي تلمع خلف كل نافذة وجدار في الأنديز..

مع كاسترو، تعالت الأجراس (رن... رن ....رن)، ونما العُشب بين أصابع الكتاب: ماركيز، نيرودا، غيين، وكاربنتيه.

ها ثمَّة إنسانٌ مُختلِف وجديد، يولَد من رحم البنادق والتّبغ والأغنيات..

ها ثمَّة بستانٌ للقومندان، لا يُنكر الرِفاق الرِفاق مرة أو اثنتين قبل صياح الديك.

ها ثمًّة قدّيس مُسلّح تحمله الريح إلى البحار والغابات، من جمهوريات الموز إلى أرخبيل الملايو، إلى أعالي الأوراس في الجزائر، إلى أحواض وضفاف لم تعد قلباً لظلام الشركات في الكونغو والميكونغ  وكل مهوارغير ذي زرع...

ها ثمَّة كتابٌ، ليس مثله كتاب، تُتلى تعاليمه في ساحات المدارس كل صباح، في صوت المطارِق والمناجِل، في تحيّة الجنود للعَلَم في الثكنات، في علبة الألوان والقصائد والروايات..

ها ثمَّة أطفالٌ يولدون ويلعبون ويكبرون مثل الأشجار..

ها ثمَّة طعمٌ وذائقةٌ للأشياءِ في أروقة اللوحات، في معارِض الكُتب، في إشارات النساء، وشريط الأخبار..

بوصلة كما الصِراط المُستقيم، بين الجدّ واللعب

ها ثمّة نساء كما الحُقبة الأمومية ومُشتركات الصيّد والرعي الأولى، كما الأمازونيات المُقاتلات وتحوّلات عشتار، بين الصباح والمساء، بين الجسد المُدّمى في النزالات والجسد الحرّ بقدر الحب وضيق النوارس من الأقفاص..

ها ثمّة كرّاسات للرِفاق، لا يقين، ولا مُطلقات، ولا أفكار مُعلّبة مثل الوجبات السريعة.

فالحياة أغنى من النظريات، إنما ليس على هواها، هكذا وكيفما اتّفق، فالحرية وعي الضرورة وقانون التناقُضات والجدل سيّد الأشياء والمُعطيات.

هو الحُلم الاشتراكي المنشود: لا استغلال ولا قهر ولا استعباد ولا طبقات.

ها ثمّة لوحة وإطار، جزيرة حرّة وحدّ فاصل بين نشيدين: النشيد الأممي ونشيد المارينز في خليج الخنازير.

ها ثمّة فُسيفساء في الأنتيل: زنوج وخلاسيون وبيض، عمال وفلاحون وجنود، وألف زهرة وزهرة تتفتّح في بستان القومندان .

ها ثمّة اشتراكية تستبدل صناديق الاقتراع الشكلية وديكتاتورية البرجوازية، بالديموقراطية الشعبية وديكتاتورية الكتلة التاريخية من المُنتجين والمُثقّفين.

ها ثمة بحر وجزيرة وملاح وزورق في لُجّة الماء يُكثّف وجع الإنسان وآماله وأحلامه على مدار الأزمان والأيام.

بحر أوسع من الكاريبي وجزيرة أكبر من كوبا وملاّح يتناسل منه الملاّحون والصيّادون  وزورق كما سفينة نوح .

يحط ّعلى ربوة الأربعين وينحر القرابين، ويوقِد نيراناً تُدركها الأبصار من أربع جهات الأرض وجبالها ومراسيها .

وإذ يغيب حيناً، يعود كما ماكندال في رواية كاربنيته، ساحر الأنهار والغابات:

يسمعون صوته في صفير الريح وخرير المياه، ويحسّون بدفئه في مواقِد الفلاّحين، ويرونه في الوعول البرّية، في الفراشات الليلية، في زفرات المُعذّبين، ونصل الصياد اللامع خلف التّيس الجبلي..

هو (ماكندال) الفتى الذي لا يموت، هو كاسترو، يشبه تموز السوري وتلاميذ مسيح الجليل وأبو ذر الغفاري وأحفاد الحسين بن علي.

هو الصوت الأزلي لكل هؤلاء : مَن يُريد انبعاثي من بياتي الشتوي، ليحرث الأرض ويروّض الحديد بالمطارِق، ليبع رداءه ويشتري سيفاً حيثما يوجد ظالم أو مُحتل أو مُستغِل، ليُغنّي ويبتهج (فعلى الأرض ما يستحق الحياة).

أيُّها المُعلّم المُسلّح، وأنت تهبط مع غيفارا أرض الأنتيل، أرض التبغ والسكر والنحاس، كان نيكولاس غيين، الشاعر الذي أحبّك وأحببت، يكتبك في مراثي  القصب : كانت الجزيرة قبلك بستان نخيل للشركات..

كانت وعراً أزرقاً ومزقاً من أحلام، وصارت فيك يا فيديل، بستاناً للفقراء وحبراً للشعراء..

صارت شمساً فتيّة وقبضات أقوى من ثقل المِجداف.

صارت أقراصاً من نحل برّي

وأقماراً للناس ، وصوتاً للأجراس .