العرب والتحولات الدولية والإقليمية
قبل (الربيع الإسلاموي) بعقدين على الأقل تزامن أفول دولة سايكس بيكو العربية، دولة الحرس البيروقراطي القديم، مع الأفول السوفياتي (رأسمالية الدولة البروقراطية العظمى).
ولعل هذا الاستنتاج المسلم به، دفع المتروبولات الاستعمارية في الغرب لكل خياراتها وحروبها على هذا المثلث منذ بلورته في القرن العشرين. وعلى رأس هذه الخيارات المشروع الصهيوني منذ يومه الأول عبر وعد بلفور الذي تزامن مع اتفاقية سايكس بيكو لتمزيق الشام والعراق وحصار مصر وعزلها.
مقابل المعادلة السابقة (سايكس بيكو ووعد بلفور) في مطلع القرن السابق، ثمة معادلة جديدة يجري اختبارها وترجمتها بالدم منذ عقود، وهي معادلة الكانتونات المذهبية والطائفية كبديل لدولة الحرس البيروقراطي وسايكس بيكو مقابل (الشرق الأوسط الجديد) الاسم المعلن لسيناريو (إسرائيل الكبرى) وكونفدرالية الأراضي المقدسة الدولة اليهودية والكانتونات الطائفية على امتداد الشرق).
وتساعدنا الإسنادات والإحالات النظرية التالية على مقاربة وقراءة السيناريو السابق:
-أ- هشاشة الحالة العربية الناجمة عن النمط الكولونيالي التابع، وبالتالي من نقص الاندماج المدني وفكرة السلطة السياسية المعاصرة (قراءات مهدي عامل والجابري).
وهي الحالة التي أكدتها مقاربات توفلر ممن (تحول السلطة ي الشمال وانهيارها في بلدان مثل البلدان العربية) كما راح برنار لويس يوظفها في خدمة السيناريو الأمريكي، الإسرائيلي فحسب تشخيصه فنحن إزاء فسيفساء مذهبية وجهوية تجمعها قشرة خارجية اسمها الدولة (ناظم خارجي يفتقد إلى الميكانيزمات الداخلية) وبالتالي ما أن تضرب هذه القشرة حتى تعود البنية إلى سيرتها الأولى (مجاميع لم ترق إلى مستوى المجتمع والدولة الحديثة).
-ب- وبالإضافة لذلك فإن اهتمام بريجنسكي بالانبعاث العثماني لغيات تطويق روسيا في أوراسيا، استتبع سيناريوهات أخرى لتحطيم سوريا والعراق وتحويلهما إلى مجالات حيوية تركية، محمولة بخرائط إمبراطورية لم تغادر الأرشيف العثماني حول الموصل وحلب.تأسياً على كل ما سبق، ولغايات إعادة رسم المشهد العربي وحدوده وخرائطه في المطابخ الأمريكية – الإسرائيلية انطلقت ماكينات الفوضى الهدامة بأسماء وذرائع وأدوات شتى بل ومتضاربة في الظاهر. فمن الشرق الأوسط الكبير، والجديد، إلى الربيع العربي، ومن الثورات الدستورية التي جربها الغرب مع إيران وتركيا قبل قرن تقريباً إلى الثورات الملونة، ومن أبشع الأدوات التكفيرية الإجرامية وحشدها في العراق وسوريا وليبيا وسينا، إلى مبادىء ولسون, وجون لوك , التي تربط الحريات السياسية بحريات الأسواق، إلى مشاريع تقسيم تناقش في الكونغرس والكنيست جهاراً نهاراً ولا تستثني (العواصم الصديقة منها).
كما حفرت واشتقت لها قاموساً خاصاً من اللغة والمفردات المشيطنة (الشمولية، اللغة الخشبية... إلخ) مقابل مفردات مدهونة بالعسل مثل الدولة المدنية، المواطنة، تمكين النساء... إلخ.
وفي كل ذلك لم يكن الهدف استبدال الدولة (الشمولية) (بالدولة المدنية) ولا استبدال نظام بنظام، بل تفكيك الدولة وتفتيت المجتمع (بالجملة) وإعادة تركيبهما على شكل كانتونات طائفية وقبلية وجهوية متكارهة متكافرة متناحرة.
وبتكثيف لحدود الدم وثقافته فقد تجلى السيناريو المذكور في العناوين التالية: -1- استراتيجية التفكيك والشرق الأوسط الجديد والفوضى الهدامة باسم الثورة والربيع العربي وبذرائع حقوق الإنسان والنساء لطي صفحة الشموليات والخطاب الأيديولوجي الخشبي.
-2- حشد التكفيريين الليبراليين في كأس واحد في خدمة الاستراتيجية المذكورة، وهي قوى لا تعبر في غالبيتها عن برامج حقيقية بديلة لأية سلطة ولا تعكس مصالح قوى طبقية حقيقية. فلا القطعان ولا الذئاب المنفردة للجماعات التكفيرية تصدق أنها قادرة على بناء (دولة الخلافة) في عصر ما بعد الحداثة. ولا نشطاء حقوق الإنسان الليبراليين يصدقون ذلك أيضاص، فهم في غالبيتهم (ذئاب ليبرالية منفردة) استغلت ضعف قوى المجتمع المدني الحقيقية (الأحزاب والنقابات) وراحت تتحدث باسمهم بل وتدعو إلى (تدريبهم) على العمل السياسي والمدني وكلاهما، التكفيريون والليبراليون ينهلون من المصدر (الأمريكي – الإسرائيلي) نفسه ولكن بخطابات ووسائل مختلفة وبهدف رئيسي مبرمج هو الفوضى الهدامة. وليس بلا معنى هنا أن عناوين هذا المصدر في غالبيتها الساحقة من اليهود مثل جورج سوروس (صاحب المجتمع المفتوح) وبيتر اكرمان وجين شارب وبرنار ليفي (فلاسفة الثورات الملونة) ومثل نوح فيلدمان اليهودي الأمريكي الذي وضع دستور العراق بعد الغزو مؤكداً على (الإسلام) كما يفهمه كمصدر رئيسي للتشريع وداعياً المترددين في الكونغرس والبيت الأبيض إلى إنهاء تحفظاتهم على الجماعات الإسلامية، بل إن استاذه اليهودي (برنار لويس) يصر في كل دراساته على أن (لا علمانية في الإسلام).
-3- انطلاقاً من تشخيص الدوافع والنواظم المركزية للدولة العربية المستهدفة وهي الجيش، الطبقة الوسطى، الهوية، فإن أبرز الآليات التي دفعها الأمريكيون لتحطيم هذه الدولة هي: -أ- الجماعات التفكيرية المسلحة لتفكيك الجيوش وتحطيمها. -ب- البنك وصندوق النقد الدولي لتفكيك وتحطيم الطبقة الوسطى. -ج- الخطاب الطائفي من جهة وخطابة الهويات الفرعية الليبرالية، من جهة ثانية لتحطيم الهويات الجامعة.