لبنان الفساد الخفِي، ما لا تقوله الموازنة

ليس يهدأ لبنان، ليس هو الوطن الذي يستطيع أن يقفل قضاياه السياسية، اليوم يحارب الفساد، وفي الحقيقة يحارب نفسه فلم تحصل ثورة تغيَّرَ فيها وجه الحكم أو بعضه بل هزَّ الشعب لمرة صناديق الاقتراع فاهتزت الكراسي االصَدِئة الموضوعة فوق ظهره منذ إنتهاء الحرب الأهلية. الكثير من النتاج الغربي في السوق المحلية ليس الفساد منها ،الفساد ليس مستورداً إنه الصناعة المحلية الأكثر شهرةً ، ليست السياحة ولا الخدمات ولا حتى الحمص بالطحينة ذات الصيت العالمي بل هو الفساد.

البلاد أشبه ما تكون اليوم على مائدة العشاء الأخير ...العشاء الأخير بالمعنى اللبناني لا بالمعنى اللاهوتي إذ هي آخر مظاهر الإسراف والترف والفساد والتزوير لكل الحقبات الماضية التي شكّلت حياتها السياسية. ولكن في الصباح من سيُرفَع على خشبةٍ ليَدفَعَ الثمن أهو الوطن أم يهوذا الساسي أم الشعب الفقير. وليست الموازنة حلاً حقيقياً فهي تُعنى بالأرقام والأمور الإدارية وفساد لبنان ليس إدارياً وحسب بل هو متأصّل في الثقافة والوجدان اللبنانيَين حتى ليصل معه إلى مرحلة القداسة ، وهو ليس في الطبقات العليا بل هو حتى شعبي وليس ذات صفة تُلحِق بصاحبها العار الاجتماعي أو العزلة بل تجعله محمولاً على الأكتاف يُدار به بين ساحة وأخرى ومنطقة وأختها ومنبر لله وآخر لقيصر.

الفساد في عمل الدستور

إن الدستور أساس التشريع و الذي من المفروض أن يكون قارب الأمان في أمواج الهمجية والفوضى يعاني من ثقوبٍ خطيرة تكاد تذهب بالدولة إلى الغرق ، فإما أنه لا يُطَبَّق كما هو الحال بشقِّه المتعلق بإنشاء مجلس الشيوخ وفصل السلطات وإلغاء الطائفية ، أو أنه لا يُراعى فيه مبدأ المرونة وإمكانية التعديل فيغفل عن معالجة بعض الثغرات.
وبالتالي فإن أصل محاربة الفساد هو في إعادة صوغ عصرية لبنود الدستور لا تختلف وروحه في النص عبر قوانين تحمي مؤسّسات الدولة من أن يصيبها العَطَب أو التعطيل ، ولا يكفي التشريع فحسب بل لا بد من ملاحظة القوانين المشتَرَعة ووضعها حيِّزَ التنفيذ من خلال آلية قانونية فعّالة لا تخضع للتدخل السياسي يُحال إليها كل الخلافات الداخلية حول القرارات الصادرة التي تتوافق أو تتعارض مع الدستور. ولا ضير في دوام ملاحظة الدساتيروتحديثها فهي ليست كتاباً سماوياً منزلاً بل وضعته أيادي الفئة التي أسّست البلاد في ظرفها ولا ضير في تحديثه أو تعديله كي يتلاقى دوماً وحركة العصر.

الفساد في قانون الانتخاب


إنَّ أول ما يُصيب الوطنَ بالضعف هو أن يكون الحُكمُ فيه غير قائم على ركائز حقيقية تُعبِّر عن إرادة الشعب. وبالتالي فإن قانون إنتخاب بتمثيل حقيقي وعادل لم يتحقّق في لبنان بعد وإن أُقَرَّ قانون النسبية التي جرت الانتخابات الأخيرة على أساسه ، فقد ولِد مشوّهاً جرَّاءَ التعديلات التي أُضيفت إليه وسلبته روح التمثيل الحقيقي ، وعليه فإن إصلاح قانون الإنتخاب باب المراد لتحمل الشعب مسؤولية العمل السياسي كما أن ثقافة الإنتماء للنقابات العمَّالية والتَّجمعات التي تُعنى بقضايا حياتية مُلِحَّة للشعب ستخفف الاحتكار الحزبي وستعطي مرشّحين بمشاريع انتخابية واضحة فرصة التعبير عن طاقاتهم في البرلمان.
نزيف الأدمغة والطاقات البشرية اللبنانية.


علماء لبنان مثقفوه رجال أعماله مفكروه أهل الخبرة والمعرفة كل هؤلاء يعيش معظمهم خارج لبنان وما تحكيه الأرقام مرعب ومخيف، لبنان يملك طاقات علمية ومادية كبيرة جداً هي إما شبه منقطعة عن الوطن أو قد استقرّت في دول الاغتراب ، ويشكّل الوطن لها حالة سياحية لا أكثر إن هذا النزوح السنوي لهو غير طبيعي على الإطلاق في بلد لا يعيش حرباً داخلية أو خارجية أو كوارث طبيعية على أراضيه ، وإن الفساد الأكبر في مقاربة هذا الملف هو في التعمية عن حجمه الكبير وفي الأخصّ أن اللبناني المرتحل ليس يغادر بسبب السياحة بل هو منتقل في رحلة للعيش خارج البلاد قد يطول أمدها والبعض لا يعود على الإطلاق. وهكذا يعيش لبنان نزيفاً بشرياً حاداً في مقابل نزوح جنسيات دول عربية إليه مما يهدّد بتغيير ديمغرافي حقيقي قد لا تظهر نتائجه قريباً إنما على الأمد البعيد.

 

الفساد في إدارة موارد البلاد


إن تسخير موارد الأرض والبحر والصناعات والزراعات والماشية والمصانع بكل أشكالها لخلق اكتفاء شبه ذاتي في كل أساسيات العيش ، يخفّف ضغط الدول الكبرى السياسية وتدخّلاتها في الأمن الداخلي والقرار السيادي ، ويعطي إستقلالية حقيقية للوطن. إنه ليس في لبنان دعم حقيقي لزراعات أو صناعات وطنية والأمر لا يتعلق بمسألة الاستيراد والتصدير أو موقع لبنان على البحر المتوسّط ، بل يتعلق بصورة الإنتاج القومي للبلاد وقدرتها على رفد قطاعاتها بمداخيل خالصة لا تعتمد على قروض خارجية تبقي لبنان في دائرة تبعية وعجز مستمرين

استهداف الهوية الوطنية اللبنانية


إن الدول تعمل على زرع الروح الوطنية في داخل المكوّن الشعبي ، وذلك لاستنهاض الطاقات الشبابية وبث روح الانتماء للأرض والكيان ، لكن الهوية اللبنانية تتعرّض في أصلها للتوهين من خلال انعدام الثقة لدى الشعب بمستقبله و مستقبل أولاده وعدم الاطمئنان أو الشعور بوجود وطن حقيقي تبذل من أجل تطويره الطاقات والهمم ، ما يجعل ترك الوطن أمراً مستسهلاً بل وضرورياً في كثير الأحيان ويؤدي إلى صراع حقيقي بين المواطن ودولته حين يشعر معها أن المصلحة الشخصية هي عكس المصلحة العامة ، وهذا منشأ المخالفات الشعبية للقانون إن كان في البناء أو في الكهرباء أو الآبار الجوفية أو الطرقات أو الحدود ، فحين تنشأ عداوة بين المواطن والحكم سيشعر أن الوطن حدوده شخصية جداً وضيّقة جداً لا يتعدى البيت أو الشارع أو العائلة ، ويعمل على انفصاله عن الوطن الكبير ، والأخطر هو ما تقوم به بعض الأطراف السياسية للتسويق لدول كبرى عاطفياً ونفسياً وحتى مادياً ، وتصدير الحسّ الوطني إلى خارج الحدود ما يؤدّي إلى نشوء صراعات داخلية مدمّرة داخل الوطن الواحد من أجل مصالح خارجية ، هذه الخطيئة الكبرى تكمن في أصل الفساد القيادي العام الذي عليه أن يعمل من |أجل توحيد الجميع تحت هوية واحدة مهما اختلفت الأهواء السياسية في ما بينهم.

تدمير البيئة الطبيعية اللبنانية

إن الحفاظ على البيئة يتعدّى المسألة الشخصية إلى الحال القومية ، فنتيجةً للفساد البيئي يتغيّر شكل الأراضي الوطنية من خلال تآكل الجبال وقطع الأشجار وتفريغ التربة والبناء العشوائي واحتلال الشواطىء وتلويث مياه الأنهار وهدر المياه الجوفية ، كلها عوامل لها تأثيرها بعيد الأمد ليس في النظافة أو عدمها بل على تضاريس البلاد وجغرافيتها ومرافقها العامة المخصّصة للشعب ، كالشواطىء وضفاف الأنهار والمحميات الطبيعية والمساحات الواسعة غير المأهولة ، وهذا وإن كان في الأصل يقضي على الطبيعة الجغرافية المملوكة من كافة الشعب ، تفتح أبواب الكوارث الطبيعية كالأوبئة والأمراض التي بدأت بالانتشار بالفعل وتهدّد بكوارث أخرى لم تعرفها البلاد من قبل ، كالفياضانات والأمطار السامة وتكاثر الحيوانات الغريبة والخلل في الدورة الطبيعية ، وهذا يُعَدّ تهديداً قومياً حقيقياً إذا أخذنا في الاعتبار حالات النزوح الداخلية بعيداً عن مناطق ملوّثة كمنابع نهر الليطاني والأماكن المحيطة بالمكبّات والمطامر، وارتفاع حالات الإصابات بأمراض السرطان بمعدلات مخيفة، وإذا لم تكن البلاد قائمة على طبيعة صالحة للعيش فإن تدميرها ما أسرع أن يكون.

إن هذه العناوين جميعها التي تمنع الوطن من أن يعيش تجلياته الحقيقية لا تكفي في إصلاحها بيانات مادية عن اقتطاع من هنا وتوفير من هناك ، فإدارة الدولة المحاسباتية تُناط بموظفين من ذوي الاختصاص ، أمَا محاربة الفساد لا بد لها من إرادة جبّارة تتخطّى صوغ موازنة سنوية إلى ثورة على الذات في طريقة الحكم وإدارة البلاد ، وأقول على الذات كي لا يؤرّخ الآخرون لثورة من نوع مختلف رأينا ماذا فعلت في دول دمّرت فيها أكثر مما عمّرت وجَلَبَت خريفاً باسم ربيع لم يُبقِ ورقةً خضراء على غصن شجرة.