بنية التخلّف والكتالوج الأميركي
غياب الفهم الناجِز لقضيّة التخلّف عن "النخبة العربيّة"، بعد أن عُمِل على فهم التخلّف على أنه حال من التأخّر عن تحقيق "معايير" فوقيّة بعينها، وسيكفل اللحاق بتطبيقها وصول مفاجىء للتطوّر، وليس حالة تعبّر عن بنية متكاملة تتسم بفقدان القوة والاستقلال، ويغيب فيها تمثيل المصالح الاقتصادية والاجتماعية الجوهريّة للأغلبية السكانيّة في مواجهة ناهبيها، المتحكّمين ليس فقط في ثرواتها وأسواقها بل في أصحاب السلطة في المجتمعات المتخلّفة.
ثمة فارق بين تناول التخلّف من حيث هو واقع حيّ يمثل انعكاساً أميناً للتشكيلة الاجتماعية، وقابل للتجاوز بتجاوز التشكيلة المتخلّفة، وبين تناولها من حيث هو "قَدَر" لا يمكن تجاوزه أو يمكن فقط بتنفيذ الكتالوج الأميركي؛ يحكم الكتالوج المذكور ذهنية الليبرالي واليساري الديمقراطي العربيان بصفة تأسيسية، وترتبط بالكتالوج سمات ثلاث.
الأولى الترحيب بالتقسيم الجيو سياسي، الطائفي والمذهبي والعرقي، في المنطقة العربية ومحيطها، والذهاب إلى شكل تفكيكي من فرض، وهمي، للتجانس بين مكوّنات المنطقة، يقيم نقاطاً لنزح المواد الخام والثروة وأسواقاً أصغر وأكثر جدوى للاستثمار الغربي، بمعناه الأوسع الذي يشمل تصريف إنتاج الأسلحة وتشغيل الخدمات المتنوّعة الموَكَّلة غربياً، على خلاف نموذج الدولة الوطنية الذي يرفضه الليبرالي واليساري الديمقراطي العربيان، والكفيل بتجاوز التشظّي الاجتماعي، القَرابي وغيره من صنوف متعدّدة المعايير، إلى شروط تسمح بتراكم للثروة والتطوّر.
والثانية اعتماد المعايير الشكلية للحُكم الرشيد وحقوق الإنسان للحُكم السياسي، باعتبارها سقفَ المطلب الاجتماعي العام، من دون البحث في عُمق وجوهر المفاهيم المشكّلة لتلك المعايير بفعل القياس على نموذج قائم، ومختلف، وناتج من سياق مغاير بالكامل، عدا عوامل إنسانية بالغة العمومية والتصوّرية، وما يتضمنه ذلك من إسقاط واستبعاد ضمني للمعايير الأسبق بداهةً والمُستقاة من التشكيلة الاجتماعية ذاتها، للمنطقة؛ فمجتمع لم يبلغ بعد مرحلة الدولة الحقيقية الحديثة ولا يد له في سوقه المحلي ولا يملك المنافسة في الصناعة والزراعة والخدمات، لا يُتصوَر أن تقوم في بنيته أو بنية سلطته معايير الحُكم الإجرائية نفسها الموضوعة في الغرب الرأسمالي الاستعماري، فضلاً عن أن يتم تقييم السلطة المحلية وفقاً لتلك المعايير.
والثالثة اعتماد معيار "بِنية التبعية" كوازن وضامن لبقاء التشكيلة الاجتماعية المعيّنة من حال الأساس، باعتبار أن التشكيلة السياسية العامة لحُكم الشرق الأوسط والمنطقة العربية، منذ قيام الأحادية القطبية، تستمد بقاءها ذاته من التحاقها بالخارج الغربي، اقتصادياً وسياسياً، بما يمنحها الشرعية المطلوبة واسمها "الشرعية الدولية"، التي تعبّر عن قبول سوق العولمة للكيان – الدولة أو محاصرته لها بما يحاربها اقتصادياً، وفق ولائها الالتحاقي التابع من عدمه؛ الأمر المنعكس في الذهنية المذكورة، بحُكم الواقع بأكمله، ووفقاً لعامل واقعي هو العلاقة بين "النخبة" الليبرالية ذاتها والخارج، ارتباط يبدو ثقافياً وفكرياً في جانبه الأوضح الذي يظل انعكاسا لارتباط اقتصادي ومهني، يكمن في منظومة (النشاط) الدبلوماسي الاجتماعي الأيديولوجي الغربي، بأوسع معانيه، وتشمل شبكة من المراكز البحثية العابرة للقارات، والمنظمات الكبرى المعنية بتشغيل منظمات مجتمع مدني أصغر، وصناديق التمويل ومراكز التدريب على نشاط اجتماعي وبحثي يعمل بذات المعايير السابق ذكرها في النقطة الثانية.
إن مدخل فهم التخلّف كفشل للالتحاق بالمعايير الأوروبية، وليس نتيجة للالتحاق بالمُستعمِر المُهيمِن والتعرّض للنهب منه، صناعة كاملة، هي صناعة الكتالوج الأميركي، وتشمل سردية أساسية وبناء أيديولوجي – فكري وفرضيات أوليّة وماكينات للدعاية السياسية، ومحرّكوها وواضعو منهجها كيانات مادية قائمة في شبكة اقتصادية رأسمالية فاعلة، بطبيعتها الموضوعية وبواقع السوق، في الاستفادة من بنية النهب المُلازِمة لبنية التخلّف؛ وقد وجدت لنفسها مُرتَكزاً ذهنياً في التراث الليبرالي لدى النخبة العربية المثقّفة، وفقه استيراد "التنوير"، ومرتكَزاً عملياً في آلاف العناصر بالوطن العربي، يعملون بأجر في جمْع المعلومات والقيام بالإحصاءات والأبحاث والدعاية السياسية للكتالوج، ويتعاطون معه بلقاءات مباشرة في دورات تدريبية، مشكّلين نمطاً جديداً تصاعَد حضوره (وإنتاجه الثقافي بالمعنى الشامل) بتصاعُد انهيار دور "الدولة" في الاقتصاد والمجتمع في البلدان التي يعملون بها، وانهيار وتجويف صناعة الثقافة إجمالاً، مع تضاؤل العمل السياسي الحزبي والأهلي الشعبي؛ وحلّ هذا النمط، ببنائه، محلّ نموذج العمل السياسي والتنظيمي والثقافي - التطوّعي، ومحلّ نموذج "المُثقف" الوطني التقدمي الذي يكوّن موقفه انطلاقاً من واقعه الذي لم ينجز مرحلة التحرّر الوطني بعد.
تمنح الحقوقيّة الأولوية "الذهنيّة" المطلقة لمسائل موضوعة على قاعدة فصل "الإنسان" عن مصالحه المباشرة، بما هو متعرّض للنهب والإفقار ولاستغلال مركّب ومضاعَف من منظومة عالمية، ووضع تصوّر مجرّد له من حيث تناقضه مع "السلطة" المباشرة التي تحكمه محلّياً، مع تجاوُز تحليل طبيعة تلك السلطة ودورها في علاقتها بالناهِب العالمي، ومن دون تحليل موقع هذا الإنسان ــ المواطن نفسه من النظام العالمي، صعوداً به إلى مصاف مواطن آخر، متخيَّل وهو صورة عن المواطن الغربي، يقع تناقضه الأكبر مع السلطة المحلّية فقط لا غير، من حيث تداولها بين "قوى سياسيّة" متعدّدة، مع صرف النظر عن كيفية نشأة الكتل الاجتماعية المكوّنة لتلك القوى ومدى تمثيل الأخيرة لمصالح هذا المواطن، ومن حيث شفافيّتها الاقتصاديّة والتزامها بمعايير حقوق الإنسان ومنح الحق في التعبير والانتماء والخصوصيّة الهويّاتية، بما يتمثّل بواقع اجتماعي مفقود في المنطقة العربيّة إجمالاً، وهو واقع مجتمع رأسمالية المركز بـ"قضاياه" المذكورة، بينما يسود - حقيقة - واقع اقتصادي واجتماعي لمجتمعات تابعة ومستهلِكة وذات سمات إقطاعية، في أوطان هي أقرب لنقاط سحب وتكوين وتدوير وتشغيل للثروة بالنسبة لكبار قوى السوق الرأسمالي المعولم، أقوى وأكبر الفاعلين في المجتمعات التابعة، وأول المستفيدين اقتصاديّاً من كتلها الاجتماعية الحاكِمة (ذات المصلحة في التبعيّة وبقاء نظام الريع).
يمكن القول إن "موت السياسة" في المنطقة العربيّة دعمَه، مع غياب الحريّات، تصعيد معادل للسياسة وهو الحقوقية التي تتغذّى، في الأساس، على موت السياسة، وعلى غياب العمل التشاركي الاجتماعي القائم على مصالح متبلوّرة لكتلة اجتماعية محدّدة، أي العمل الأهلي الشعبي أو النقابي، الوطني ــ الاجتماعي أو الطبقي، وقد جاء صعودها، بفعل فاعِل دولي، كسبب غير مباشر وشرط لتعميق موت السياسة، وليس نتيجة له، إذ شهد الواقع العربي فاعلية معتبَرة، وإن افتقدت التأثير الكافي، للقوى الوطنيّة والتقدميّة والقوميّة في المنطقة العربية حتى منتصف تسعينات القرن العشرين، وهي المرحلة التي شهدت، تاريخيّاً، الانطلاق الأكثر فاعليّة لأعمال المجتمع المدني الحقوقي المموّل، بعد تجارب أوليّة سبقت تلك المرحلة بسنوات، ووجدت ممثّليها المحلّيين من عناصر القوى التقدميّة والماركسيّة نفسها.
من هنا يتعمّق، باطراد، غياب الفهم الناجِز لقضيّة التخلّف عن "النخبة العربيّة"، بعد أن عُمِل على فهم التخلّف على أنه حال من التأخّر عن تحقيق "معايير" فوقيّة بعينها، وسيكفل اللحاق بتطبيقها وصول مفاجىء للتطوّر، وليس حالة تعبّر عن بنية متكاملة تتسم بفقدان القوة والاستقلال، ويغيب فيها تمثيل المصالح الاقتصادية والاجتماعية الجوهريّة للأغلبية السكانيّة في مواجهة ناهبيها، المتحكّمين ليس فقط في ثرواتها وأسواقها بل في أصحاب السلطة في المجتمعات المتخلّفة.