"خارطة الطريق" السورية.. التباساتٌ في المفهوم و صراعٌ في المرجعيات الحاكمة!

بين "إعلان موسكو"(20/12/2016) واتفاق وقف إطلاق النار (29/12/2016) من موسكو خطب ما، فالاتفاق الثانيّ ليس تنفيذاً حرفياً للأول، أو لنقل بشكلٍ أدّق أنّ الاتفاق الثاني قد تجاوز في بعض معطياته الإطار الأول وخرج عنه موضوعاً، ولعلّ هذا التجاوز كان سبباً محتملاً لعدم ممارسة إيران دور الضامن في "اتفاق وقف إطلاق النار" تنفيذاً لذلك الإعلان، ووصل حدّ السّجال بين الطرفين الإيراني والتركيّ المشتركين في الترويكا المعلنة من موسكو، وكرة اللهب قد تُدحرج بينهما سريعاً.

الهوّة كبيرةٌ بين الطرفين ولا توجد حتى قواسم مشتركة بينهما، ومن اللافت غياب البند الأول من "إعلان موسكو" عن "اتفاق موسكو" والذي يؤكّد على الطابع العلماني للدولة السورية
 إيران رفعت الصوت ضدّ الشريك المفترض في الترويكا، واصفةً تركيا بالطرف المعتديّ وطالبته مغادرة سوريا فوراً أو التنسيق مع الحكومة الشرعية هنالك، ومن المعلوم أنّ العدوان التركي ليس حدثاً مستجداً بطبيعة الحال بل هو سابق لإعلان موسكو، فماذا استجدّ لكي تصعّد إيران لهجتها؟!.

 

 وتركيا بدورها حمّلت إيران مسؤولية خرق الهدنة على لسان وزير خارجيتها مولود جاويش أوغلو، تصريحاتٌ سارعت إيران إلى اعتبارها "غير مسؤولة"، وضعيةٌ تُنبئ أنّ الطريق إلى الأستانة مازال طويلاً وغير معبدٍ ويحتاج جهوداً أكبر وترتيباتٍ أعمق وأدق لبلوغ مؤتمرٍ من المفترض أن تشكّل مخرجاته نقطة انعطافٍ نحو الحل في سوريا وإلّا سيكون مؤتمر الأستانة "المقترح" بنتائجه في أحسن تقديرٍ نسخةٌ مشابهةٌ لنتائج لقاء لوزان (15/10/2016) بمبادرةٍ أحاديةٍ أميركية.


  فماذا حدث بالضبط وماهي نقاط الخلاف العالقة التي أصابت أطراف الترويكا بالتشنّج في مسار قد ينقلب مواجهةً إذا استمر؟ 

الواضح أنّ الخلاف بدأ فعلياً مع إعلان موسكو وعلى لسان الرئيس بوتين وقف إطلاق النار وفق اتفاقياتٍ ثلاثٍ موقّعةٍ وبضمانةٍ تركيةٍ روسية، وهنا نحن أمام احتمالين لما حدث، الاحتمال الأول أنّه جرى استبعاد إيران عمداً من الضمانة الثنائية العسكرية لطرفي الاتفاق وقبول دورها في الضمانة السياسية فقط، والاحتمال الثاني أنّها رفضت أنّ تكون طرفاً ضامناً للحكومة السورية عسكرياً، لأنّها تعتبر وجهة النظر السورية ميدانياً هي الأكثر دقةً وموضوعيةً من رؤية الشريك الروسي وبالتالي قبلت بالضمانة السياسية فقط، وترجيح أحد الاحتمالين رهنٌ بمستجدات الحدث السوريّ، وبالعودة إلى النقاط العالقة بين أطراف الترويكا والتي تعكس في جزءٍ منها هواجس الحكومة السورية أيضاً، وتؤكّده وتيرة التنسيق السوري الإيراني العالية مؤخراً.

 

 ويمكن تقسيمها نظرياً إلى ثلاث نقاط، النقطة الأولى وهي المتعلّقة بالمرجعية الحاكمة للتفاوض، فوثيقة الاتفاق "حول تشكيل وفد لبداية المفاوضات"، تضع بيان جنيف الأول (2012) موضوع الأساس في التفاوض، أمرٌ كان حاضراً بقوةٍ في نص القرار الدولي (2336) الذي أكّد صراحة على القرار (2118) كأساسٍ للتسوية المفترضة، وهذا بحد ذاته يُعد انقلاباً سياسياً على انتصار الحكومة السورية في مدينة حلب، مع التذكير أنّ الفصائل الموقّعة على هذا الاتفاق قاتلت حتى الهزيمة وخرجت بتسويةٍ تؤكّد انتصار الجيش السوري، نتيجةٌ يفترض أنّ تحوّل لقاء الأستانة إلى "يالطا سورية" و"فرساي للفصائل"، لا أن تجلس هذه الفصائل على طاولة المفاوضات لتطالب بتسليم السلطة من وضعية المنتصر، وكان من الأفضل تجنّب وضع مرجعيةٍ دوليةٍ غير متفقٍ على تفسيرها كأساسٍ لازمٍ للتوقيع على اتفاق وقف إطلاق النار، أو الاكتفاء بالقرار (2254) كأساسٍ لهذا التفاوض حيث يمكن قراءة هذا القرار من زوايا مختلفة تكون رهناً بعملية التفاوض ذاتها، حيث يتمتّع القرار بمرونة عالية ومفرداته حمّالة أوجه، تفيّ بالغرض التفاوضي.

 

 والنقطة الثانية العالقة هي مسألة الوجود "الشرعي" للقوات العسكرية غير السورية في سوريا، وكان جلياً أنّ تركيا وجّهت سهاماً سامّة ضدّ "حزب الله" من على منبر إعلان موسكو، وتلقّت رداً قوياً مباشراً من الجمهورية الإيرانية، وأعادت تكراره بأنّ وجود "حزب الله" شرعيّ وبطلبٍ من الحكومة السورية التي علّقت على "اتفاق موسكو" أنها لم توقّع على وثيقةٍ ورد فيها ذكرٌ لتركيا، فهي "دولةٌ معتدية" ومحتلّةٌ لأراضٍ سورية، وبالتالي إنّ إعلان موسكو واتفاق موسكو والقرار (2336) لم يضع أيّ منهم مسألة العدوان التركي على الأراضي السورية موضع البحث أو حتى النقد، بل حوّل تركيا إلى جهةٍ ضامنةٍ وراعيةٍ لمباحثات "السلام"من دون البحث في مستقبل دورها العسكري في سورية سابقاً ولاحقاً.

 

 النقطة الثالثة العالقة هي تعريف الإرهاب بشكلٍ واضح ومَن هيّ الجماعات المرتبطة "بجبهة النصرة" الإرهابية، فهل يا ترى التوقيع على "اتفاق موسكو" والانضمام لوقف إطلاق النار هو بوابة الاعتدال فقط، متناسين التاريخ الإجرامي والإرهابي لفصائل ذبحت وتبنّت عمليات إرهابية بشكل علنيّ، ألم يرد في نص "إعلان موسكو" أولوية العمل بشكلٍ مشتركٍ على فصل "المعارضة" عن الإرهاب، كمقدمةٍ للانتقال إلى نظام وقف إطلاق النار، فكيف يتحوّل هذا النظام إلى صك براءة من تهمة الإرهاب بحد ذاته في تناقضٍ غير مبرّر مع "إعلان موسكو"؟!.

هذه المقدمة تصبح ضروريةً لمناقشة ما سميّ "خارطة الطريق" السورية وفق  ما نصّ عليه اتفاق وقف إطلاق النار، والتي من المفترض أن تأتي كنتيجةٍ "للعمل المشترك" بين وفد المعارضة الذي هو بحد ذاته وفد الفصائل العسكرية(سابقاً) وبين الحكومة السورية، فالهوّة كبيرةٌ بين الطرفين ولا توجد حتى قواسم مشتركة بينهما، ومن اللافت غياب البند الأول من "إعلان موسكو" عن "اتفاق موسكو" والذي يؤكّد على الطابع العلماني للدولة السورية.

 فهل سقط سهواً أم أنّ في الأمر طلباً تركياً غير بريء؟!،  فخارطة الطريق تلك مليئةٌ بالالتباسات في مهدها وتعجّل في لحدها، الالتباس الأول هو المرجعية الحاكمة للتفاوض، فمرجعية كلّ طرفٍ مختلفةٌ، فالفصائل تتبنّى بيان جنيف الأول (2012) لإنشاء هيئة حكم انتقالية بصلاحيات كاملة، بينما تنطلق الحكومة من رؤية القرار (2254) للعملية السياسية الانتقالية والتي تختصر بثلاث نقاط حكومة موسعة ودستور جديد وانتخابات جديدة، فكيف لهذين الطرفين أن يلتقيا! الالتباس الثاني هو أطراف هذه الخارطة، فمن المفترض لنجاحها أن يكون بناؤها شاملاً لكلّ أطراف الصراع، فهل وفد "الأستانة  للمعارضة" هو ممثلٌ عن كلّ قوى المعارضات السورية، في مشهدٍ ليس بعيداً عن التباسات مؤتمر جنيف الثالث وإشكالياته في المرجعية الحاكمة للتفاوض ومن يمثل المعارضات السورية واحتكار طرفٍ إقليميّ لآلية تشكيل هذا الوفد، أمّا الالتباس الثالث فهو عدم وضوح علاقة الفصائل العسكرية تلك مع رفاق السلاح بالأمس والحلفاء في النموذج الإسلاموي، وعن مستقبل سلاحهم ووجهة فوهات بنادقهم آنياً.. وعن طرق إمدادهم لوجستياً بالسلاح، أليس من المحتمل أن يكون الغطاء التركي هو فقط لإعادة تجميع شتات الفصائل المهزومة ومدّها بالسلاح و"الشرعية" لتنقلب لاحقاً كما العادة على الاتفاق؟، و الالتباس الرابع علاقة مخرجات مؤتمر الأستانة وعلى رأسها خارطة الطريق تلك مع سياق جنيف للحل السياسي، سيما وأنّ القرار (2336) اعتبر مؤتمر الأستانة جزءاً من سياق الحل السياسيّ وليس بديلاً عنه، الأمر الذي يعني إعادة المفاوضات إلى نقطة الصفر مع أطرافٍ معارضةٍ في جنيف أجنداتها تتقاطع وتمثل مصالح إقليمية ودولية غير مرحبةٍ بما سيحدث في العاصمة الكازخستانية..

 

 هذه الالتباسات والإشكاليات السابقة على عقد مؤتمر الأستانة تقودنا إلى نتيجة واحدة أنّ المناخات السابقة لعقد هذا المؤتمر لا توحي بالكثير من التفاؤل، وأنّ على المنظمين تفادياً للتعثّر وربما الفشل حلّ الخلافات المستجدة بينهم و تقديم رؤىً واضحةً حول تلك الالتباسات والعمل على بناء مناخاتٍ إيجابيةٍ تُسهّل العملية التفاوضية فهيّ شرط لها، فالخبرة السورية تفيد أنّ الانتقال من الميدان إلى طاولة المفاوضات مباشرة لم يعط نتائج كبيرة.. و أنّ الإدارة الأميركية مازالت تحتفظ بمعطيات ميدانية قد تخلط الأوراق مجدّداً وعلى رأس تركيا بدايةً.