الجزائر والمُهجّرون السوريون..من الضيافة إلى الاندماج
لم تكن الجزائر تتوقّع وصول المُهجّرين السوريين إليها (حوالى تسعة آلاف) بمثل المهجرين الأفارقة من مالي والنيجر لأنهما دولتان على حدودها. مع بداية الحرب وقف الجزائريون ( ما عدا من كوّنتهم الوهّابية على قلّة قلتهم ) مع سوريا موقفاً إيجابياً.. وما قدّم لسوريا سراً لاحقاً ليس بقليل سواء من طرف أجهزة المخابرات الجزائرية أو من طرف الدولة نفسها وتعتبر الجزائر ذلك واجباً لا منّة ولا استظهاراً لعاطفة خاوية أو مودّة تأتي أكلها لاحقاً..
أكيد الحرب على سوريا هي في الواقع العملي حرب على كل الدول العربية،عَلِمَ بذلك مشغّلوها من بعض العرب أم لم يعلموا.. وما أنتجته من طوفان الهجرة للسوريين بأطيافهم وبقسوة، هي أسوأ ما عُرِف لحد الآن كأفظع تهجير بعد الحرب العالمية الثانية ..والحرب على سوريا هي حرب عالمية ثالثة بالتأكيد وبكل منطق الحروب.. والجزائر بحُكم تعرّضها هي أيضاً من قبل لمثل هذه الحروب القاسية استعمارية كانت أو من مُتطرّفي الوهّابية لاحقاً.. حذّرت كل العرب من مخاطرها ومآسيها، و"لكن صيحة في واد ونفخة في رماد" كما يقول الكواكبي.. وقد نبهت من قبل العرب كلهم إلى خطورة الحرب الإجرامية على العراق من طرف الولايات المتحدة الأميركية ومن لحق بها من وكلائها في المنطقة، ولم يسمع صوتها إلا القليل وبعد فوات الأوان، ومن سيّئات هذه الحروب ما نراه اليوم بما تحصده آلاتها من الأرواح وما تخلّفه وراءها من خراب.. لست هنا من الذين يعظّمون وطنهم خارج الحقائق أومن داخل النفخ في العاطفة والاعتزاز بها.. أكيد الجزائر جزء مهم في الوطن العربي لمساحتها الشاسعة ولتجاربها الطويلة مع الحروب، داخلية كانت أم خارجية بحُكم قرن ونصف قرن من مزاولتها مع الاستعمار الفرنسي.. ما تدعو إليه في مواقفها هو جزء مهم من تاريخها الجهادي ومن مقاومتها، وهي لا تطلب كما يعلم الجميع مدحاً أو إشادة من أحد، فما تقوم به غالباً يوضع طيّ الكتمان.. من هذا المنطلق رفضت الكتابة عن إخواننا السوريين المُهجّرين إلى الجزائر لا لأنهم في بؤس ولا لكونهم محتاجين إعلامياً إلى توضيح ما هم عليه أو فيه من حياة، حلوها ومرّها.. استقبلتهم الجزائر كضيوف، لهم ما للجزائريين وفق الممكن والمُتاح حتى لا أدّعي أنهم في قصور مشيّدة أو أنهم في محتشدات لا تليق بإنسانيتهم، وبمواقف الجزائر المعروفة وبما عليها من دين تجاه سوريا أيام محنتها زمن الاستعمار.. وأودّ هنا أن أؤكّد على أهمية هذه الرؤية الواقعية لا لكونها تضيف للجزائر مجداً أو تلغيه عنها، فالإنسانية تبرز كظاهرة عامة حالات الشدّة وحالات الظلم خاصة إذا كان من ذوي القُربي (وظلم ذوي القُربى أشد مضاضة) والسوريون ظلِموا من إخوانهم العرب أكثر مما ظلِموا من تركيا والغرب كله.. وأكيد ثمة عواطف تصنع الرأفة وأخرى تزيد الحقد ضراوة.. وعاطفة كل جزائري تجاه إخوانه السوريين المُهجّرين هنا أوالمُعذّبين هناك بحكم الحرب المسلطة عليهم لا تقدّر بمساحات الدموع ولا بمساحات الآلام..لذلك آووهم ونصروهم وفقاً لما أوتوا من قدرة وهمّة نفس.. مع بداية الحرب وقف الجزائريون ( ما عدا من كوّنتهم الوهّابية على قلّة قلتهم ) مع سوريا موقفاً إيجابياً.. وما قدّم لسوريا سراً لاحقاً ليس بقليل سواء من طرف أجهزة المخابرات الجزائرية أو من طرف الدولة نفسها وتعتبر الجزائر ذلك واجباً لا منّة ولا استظهاراً لعاطفة خاوية أو مودّة تأتي أكلها لاحقاً..
في بداية الأزمة السورية، في الحقيقة لم تكن الجزائر تتوقّع وصول المُهجّرين السوريين إليها(حوالى تسعة آلاف) بمثل المهجرين الأفارقة من مالي والنيجر لأنهما دولتان على حدودها، بينما هناك مسافة طويلة وفاصلة بين الجزائر وسوريا،وليست هي بالتأكيد من دول الجوار .. وفجأة ومن دون سابق إنذار امتلأت شوارع الجزائر بهم وعلى المستوى الوطني تقريباً. وقد عشت شخصياً بدمي ولحمي معهم هنا في مدينة قسنطينة ..ظاهرتم بداية كانت مؤلمة لكل الجزائريين وللدولة الجزائرية ومنذ البداية.ومن المهجّرين معهم فلسطينيون كانوا يعيشون في سوريا،وهم في الجزائرمُهجّرون مثل السوريين، وبالتالي كان لابدّ من حل إنساني، وديني، وقومي وعروبي لهذه الظاهرة، حينها اجتمع مجلس الوزراء وأقرّ في جلسته بأنهم ضيوف الجزائر وليسوا مهجّرين، وهنا كان على الدولة إيجاد صيغة تناسبهم على العيش في أمن وأمان، وكان ذلك.. لقد فتحت المدارس والثانويات والجامعات الجزائرية أبوابها بداية لاستقبال أبنائهم ثم التفّت حولهم الجمعيات المدنية والهلال الأحمر الجزائري بإيعاز من الدولة لاستضافتهم وضيفوا فعلاً.. ولكن ليس بمستوى عالٍ من الضيافة بداية الأمر، لأنهم دخلوا الجزائر فجأة ومن غير تنسيق مُسبَق، شخصياً قابلت مجموعة كبيرة منهم وحتى أني سألت بعضهم كإعلامي عن أحوالهم وعن الأمكنة التي جاؤوا منها من سوريا ، أحدهم قال لي من القامشلي، وآخر قال لي من دير الزور وأتذكّر أني قلت لواحد منهم وهو من القامشلي لا تيأسوا ستكرمون وتعزّزون وستعودون يوما إلى وطنكم مُكرّمين.. لكن الشيء الذي أصابني بالدهشة أنهم لا يمدّون أيديهم إلى الناس وهم على الرصيف رغم الحاجة بل يبيعون المناديل الورقية ويقتاتون من ربح تجارتها، أو يقفون أمام المساجد كل يوم جمعة فيجمعون ما يكفيهم للعيش وضمان المسكن (وبعضهم استضافتهم أسر جزائرية في بيوتها).. حتى أن المتسوّلين الجزائريين تعلّموا منهم بيع المناديل الورقية كظاهرة للتعفّف.. كان هذا في الأيام الأولى من وصولهم إلى الجزائر، لكن تدريجياً بدأوا يغيبون عن الشارع لأن فيهم من التحق بالعمل في ورش البناء لحسابه الخاص أو للعمل كعامل يومي فيها،وفيهم من فتحوا محلات للتجارة يبيعون على وجه الخصوص "الشوارما "والحلويات الشرقية السورية، وهي حلويات يحبّها الجزائريون، وفيهم من فتح مطعماً لحسابه أو يعمل في إحداها كعامل يومي،ومع استمرار الوقت بدأوا بالاندماج في المجتمع، وكانت لديهم القابلية للاندماج بشكل كبير.. على مستوى ولاية قسنطينة مثلاً وهي أكبر ثالث ولاية بالقُطر الجزائري وعاصمة الشرق الجزائري أيضاً، لا يوجد بها سوري يمد يده في الشارع بل كلهم يعملون كل حسب مقدرته ومؤهّلاته وأطفالهم بالمدارس، والثانويات، والجامعات كل حسب مستواه..
وفي غياب الظاهرة هذه طلبت من مصوّر الجريدة التجوال بالمدينة لأخذ صورة لحالهم على مستوى المدينة الجديدة فلم يجد أحداً منهم متسولاً في الطرقات بل كلهم في ما وجدوه من عمل تجاري، أو بما وفّر لهم في ورش البناء ونحوها، وبجوار مكاتب الجريدة التي أتشرّف برئاسة تحريرها "فيلا" جميلة هيّأها داخلياً وخارجياً إخوة سوريون لصاحبها بشكل هندسي رائع، وصاحب الورشة مهندس سوري والعاملون معه سوريون أيضاً.. أما على مستوى الجزائر العاصمة فهناك مجمع (وليس ملجأ او مخيّم) للبعض منهم في مكان محترم وفي بيوت مجهّزة "شاليهات" من البناء الجاهز، بها كل مستلزمات الحياة ( الإنارة ، المياه، الصرف الصحي لمدة 24ساعة على 24 يومياً) وقد أخبرتني السيّدة خديجة بن حبيلس، وهي وزيرة سابقاً، ورئيسة الهلال الأحمر الجزائري حالياً، وهي التي تُشرف على راحتهم من كل زواياها.. تقول إن الأطفال السوريون فالتعليم إجباري عليهم هنا مثل ما هو إجباري على زملائهم من الجزائريين، وهذا من الابتدائي حتى الجامعي. وأن لوازم المدرسة والدراسة من أولها إلى آخرها يوفّرها لهم الهلال الأحمر الجزائري مجاناً.. كما تتكفّل الدولة بالصحّة، أي العلاج لهم مجاناً في كل مشافي الوطن بما فيها عمليات التلقيح للأطفال والولادة للمتزوّجات من النساء. والعمليات الجراحية وكلها تتم مجاناً وعلى نفقة الدولة الجزائرية، أي موفر لهم التأمين الصحي مثل كل الجزائريين، وفي الأعياد الدينية توفّر لهم كل لوازم الفرح بالعيدين، حيث تقدّم لهم في عيد الأضحى المبارك أضحية( خرفان) العيد ويضحّون بأنفسهم مثل الجزائريين ، وفي المواسم الأخرى تقدّم لهم أطعمة نوعية..وهنا لزم التوضيح أن طعامهم تتولّى طبخه الأسر السورية بنفسها، فالهلال الأحمر الجزائري يقدّم لهم المادة الأولية من خضر وفواكه ولحوم( بيضاء وحمراء) وهم وحدهم يحضّرون من الطعام ما طاب لهم، وذلك تفادياً لإحراجهم أو حتى تذكيرهم بأنهم عالة على غيرهم (وهم ليسوا كذلك)، وتقول السيّدة الوزيرة أنهم اندمجوا في المجتمع بشكل مُلفت للانتباه وأصبحوا يعملون مثل الجزائريين وان ظاهرة التسوّل بالنسبة لهم انتهت.. أبناؤهم يتعلّمون في المدارس بمراحلها الأربع ( ابتدائي. إكمالي، ثانوي، جامعي) ..
بالنسبة للتعليم وكيف تم تثبيت مستواهم تقول السيّدة الوزيرة سابقاً رئيسة الهلال الأحمر الجزائري حالياً طلبنا من كل الأسر تصريحاً شرفياً يحدّد المستوى الدراسي لكل شاب وشابة ويوضع في ملفه الدراسي، وعلى أساسه تم توجيه التلاميذ إلى الأقسام التي يدرسون فيها كل حسب مستواه.. وفعلاً تم حل هذه الإشكالية ووجّه الكل منهم لإكمال مستواه التعليمي، ففي الابتدائي على سبيل المثال كانت في سنة 2016 أحسن نتيجة لتلميذة سورية على المستوى الوطني في شهادة التعليم الابتدائي بمعدل 10/10 وقد كرّمت في مؤسستها ومُدِحت على مواقع التواصل الاجتماعي. كما أن تلاميذ آخرين نجحوا في شهادة التعليم الثانوي (الباكالويا) وهم اليوم يدرسون في الجامعة "وربما بمِنَح"جامعية حسب الاختصاص وما تتطلبه الجامعة..
والحقيقة أن الجالية السورية كان لها هي أيضاً دور في المساعدة في التخفيف من هذه الظاهرة فقد ضمّت إلى مستثمراتها أشخاصاً منهم للعمل في مشاريعها الاستثمارية في الجزائر وخاصة منها قطاع النسيج والمطاعم، وهي بالتأكيد تحتاج إلى اليد العاملة.. ما هو مهم أيضاً أنهم لا يضايقون من أية جهة كانت ولا يمنعون من الدخول والخروج والتجوال في المدن الجزائرية ولا يُسألون عن هوياتهم إلا عند الضرورة، تنطبق عليهم قواعد الحراسة الأمنية لفائدتهم طبعاً مثل ما تنطبق على الجزائريين ولا يعاملون كأجانب، ولا يخضعون في معيشتهم لإعانات أجنبية. لكن ليس معنى هذا إنهم كلهم في بحبوحة من العيش لأنه مهما قُدّم لهم من مساعدات فحب الوطن أسمى من إي تقدير أو حنان أو مساعدة، خاصة وإنهم يشاهدون يومياً مأساة بلادهم.. لكن ربما ما يفتخرون به أمام أولئك الذين تواجدوا من أمثالهم في مناطق أخرى مثل الأردن وتركيا أنهم عوملوا هنا بإنسانية ومودّة وترحاب، خلاف غيرهم في الأردن وتركيا حيث تفيد بعض المعلومات أن المساعدات الدولية التي تأتيهم لا يصلهم منها إلا الفُتاة، بل إن تركيا تاجرت بهم في ما يُعرف بتحويل البعض منهم إلى مقاتلين في صفوف الإرهابيين.أو بالمساومة بهم مع الاتحاد الأوروبي. في ما عُرِف ويُعرَف بطوفان الهجرة إلى أوروبا أو بمساومة تركيا النظام السوري بهم قصد التنازل عن الحُكم لتثبيت طموحها في السيطرة على سوريا وتفتيتها.