تأمّلات فكرية حول زيارة بابا السلام لأرض السلام

تحت شعار "بابا السلام في أرض السلام"، زار قداسة بابا الفاتيكان البابا فرنسيس مصر ، في ظروف دولية بالغة الصعوبة ، فالتطرّف والإرهاب يضرب عشوائياً في كل أركان الأرض ، والحرب الباردة بين روسيا والولايات المتحدة الأميركية تعود تدريجياً، فتشهد تحالفات وحروباً إقليمية، كما يشهد الإسلام حرباً ضروساً وتشويهاً معتمداً عندما يربط بعض الغرب بين الإسلام وبين الإرهاب السلفي الوهّابي الداعشي، أو يروّجون لما يُسمّوه "إسلاموفوبيا"، أي الخوف من خطر الإسلام، رغم أن المؤسسات الدينية الإسلامية جميعها أدانت ومازالت تُدين الإرهاب الذي يقوم به بعض المُنتسبين للإسلام.

يزور قداسة بابا الفاتيكان البابا فرنسيس مصر ، في ظروف دولية بالغة الصعوبة
تحت شعار "بابا السلام في أرض السلام"، زار قداسة بابا الفاتيكان البابا فرنسيس مصر، في ظروف دولية بالغة الصعوبة، فالتطرّف والإرهاب يضرب عشوائياً في كل أركان الأرض، والحرب الباردة بين روسيا والولايات المتحدة الأميركية تعود تدريجياً، فتشهد تحالفات وحروباً إقليمية، كما يشهد الإسلام حرباً ضروساً وتشويهاً معتمداً عندما يربط بعض الغرب بين الإسلام وبين الإرهاب السلفي الوهّابي الداعشي ، أو يروّجون لما يُسمّوه "إسلاموفوبيا"، أي الخوف من خطر الإسلام، رغم أن المؤسسات الدينية الإسلامية جميعها أدانت ومازالت تُدين الإرهاب الذي يقوم به بعض المُنتسبين للإسلام..

جاءت إذن زيارة البابا الكاثوليكي مهمة في توقيتها ، وفي مكانها ، فمصر دولة عربية إسلامية ، سنّية المذهب صوفّية وشيعية الهوى ، وبها الأزهر الشريف المرجعية الإسلامية الكبرى ، وشيخ الأزهر الدكتور أحمد الطيب رجل صوفي مستنير يُحارب الإرهاب بعملية شاقّة لتجديد الخطاب الديني ، وفي مصر نسبة لا بأس بها من المسيحيين المصريين حتى النخاع ، يتحمّلون بدمائهم منع الفتنة الطائفية ، رغم التفجيرات الكثيرة ضدّهم ، وترأسهم كنيسة وطنية أرثوذكسية هي الأقدم في تاريخ الكنائس والرهبنة منذ وصول الحواري الرسول مرقس للأسكندرية ، وفيها الطريق الذي سارت فيه العائلة المقدّسة التي جاءت بالمسيح عليه السلام هاربة من بطش الرومان والوالي اليهودي على السواء ، ويرأس الكنيسة المصرية بابا يُعادل بابا الفاتيكان ، هو البابا تواضروس الثاني ، وتوجد طائفة كاثوليكية وأيضاً طائفة بروتستانتينية كلهم يعيشون في ظلّ الوطن الأمّ التي يُسمّى مصر ، كما تُحارب مصر الإرهاب بكل ما أوتيت من قوة ، ولذلك فإن موقف مصر السياسي داعم للدول الأخرى التي تُحارب الإرهاب ، فمصر داعمة للدولة السورية وجيشها الوطني، وهي مع العراق لصون وحدته الجغرافية، ومع ليبيا واليمن، وهي ضدّ الدول الداعمة للإرهاب، منها ما تسمّيه بالإسم مثل تركيا وقطر، ومنها لا تسمّيه لدوافع سياسية مختلفة مثل السعودية، ولكن في النهاية مصر تُحارب الإرهاب وتُحافظ على حدودها في نفس الوقت، ومن خلال ذلك حمَت نفسها من سياق مؤامرات كانت ومازالت بفضل جيشها الوطني، فكانت لكل ما سبق من حديث المؤهّلة لاستضافة بابا الكاثوليك.

أما بابا الفاتيكان فهو البابا فرنسيس الذي يُعرف عنه القدرة على التسامح ، وهو الذي طلب إيواء اللاجئين المسلمين الفارّين من الدول العربية ، فهو يماثل البابا يوحنا بولس الثاني ، الذي اعتذر عن الحروب الصليبية التي قادها الغرب الأوروبي أو الرومي ضدّ المنطقة الإسلامية طوال مائتي عام ، كما أنه يختلف كثيراً عن البابا بنديكتوس السادس عشر، فهو الذي هاجم الإسلام، وقال عنه إنه لم يأت إلا بكل ما هو شرير وغير إنساني، وهي الجملة التي أوصدت الباب بين المسلمين والفاتيكان، وبالأخصّ عندما قام الأزهر بقطع الحوار معه، كما فعلت وزارة الأوقاف، لأن المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية في مصر التابع لها أقام عدّة مؤتمرات للحوار بين الأديان، ثم منعت القاصد الرسولي من الدعوة للمؤتمرات التي عُقدت بعد ثورة يناير|كانون الثاني 2011، حتى استقال البابا بنديكتوس من منصبه عام 2013 في بادرة غريبة على السدّة البابوية والمجمع المقدّس في روما، ثم جاء البابا فرنسيس أفضل من سلفه.

نعود للزيارة البابوية لمصر، لقد التقى البابا برئيس الدولة عبد الفتاح السيسي، كما قابل شيخ الأزهر وبابا الأقباط، وحضر مؤتمر الأزهر العالمي للسلام، وأقام القدّاس الكبير، والمهم هو أن البابا تطرّق لواقع العالم المأساوي، فقال للعالم من خلال حديثه عن مصر "إن مصر التي أنقذت الشعوب الأخرى في زمن يوسف من المجاعة هي مدعوّة اليوم أن تنقذ هذه العزيزة من مجاعة المحبة والأخوة، مشيراً إلى أن مصر مدعوّة لإدانة وهزيمة كل أشكال العنف والإرهاب وإنها مدعوّة لتقديم قمح السلام لجميع القلوب الجامعة لتعايش سلمى لعمل كريم وتعليم إنساني... أن مصر بفضل تاريخها وموقعها الجغرافي الفريد تلعب دوراً لا غنى عنه في الشرق الأوسط، وبين البلدان التي تبحث عن حلول المشاكل الملحّة والمعقّدة، التي تحتاج إلى معالجة فورية لتفادى الانحدار في دوّامة عنف أكثر خطورة، وأشير هنا إلى العنف الأعمى وغير الإنساني الناتج من عدّة عوامل، الرغبة الجامِحة للسلطة وتجارة الأسلحة والمشاكل الاجتماعية الخطيرة، والتطرّف الديني الذي يستغلّ اسم الله القدّوس لارتكاب مجازر ومظالم مُريعة... وأنه يجب دحر الأفكار القاتلة والأيديولوجيات المتطرّفة والتأكيد على عدم الجمع بين الإيمان الحقيقي والعنف، ولا يمكن الجمع بين الله وأفعال الموت، مشيرا إلى أن التاريخ يكرّم صانعي السلام الذين، بشجاعة ومن دون عنف، يناضلون من أجل عالم أفضل ثم قال: "طوبى لصانعي السلام لأنهم أبناء الله يدعون".

البابا إذن يريد محاربة الفكر المتطرّف الذي يقود للإرهاب، وهو ينادي بالسلام، الذي تنشده البشرية، كما أنه يعطي مصر حقّها في حل المشاكل الإقليمية، من مواقع تاريخها الممتد وقدرتها الحالية، ولكن البابا في نفس الوقت لم يشر إلى الدور التآمري الدولي ضدّ مصر وغيرها، ولم يتحدّث عن قوى الشر الصهيونية الأميركية، التي تستخدم الإرهابيين لتمزيق الدول العربية، لضمان الدولة الصهيونية في الحياة وسط الصراعات، كما لم يتطرق لما قام به الرئيس الأميركي ترامب عندما ضرب مطار الشعيرات في سوريا بحجّة كاذبة عن استخدام النظام السلاح الكيماوي، ولم يتحدّث البابا عن الدور التركي في الشؤون العربية، وخاصة سوريا والعراق عندما يقتلون الأبرياء ويدمّرون الأحياء والبيوت، والأهم هو عدم تطرّقه لمظلومية الشعب الفلسطيني، وقيام الاحتلال الإسرائيلي بسرقة الأرض وقتل الأبرياء، وكنّا ننتظر منه إدانة صريحة للغطرسة الصهيونية الاستعمارية الإمبريالية التاريخية، لأن قضية فلسطين هي القضية الأمّ، وبسببها تقوم قوى الشر باستغلال الشباب للحروب الإرهابية.

لكل ذلك نرى أن زيارة البابا فرانسيس  لمصر مفيدة وجيّدة وتعطي دفعات لحوار الحضارات والأديان، ولكنها غير رشيدة لأنها في النهاية لا تمنع الحروب ولا تدين مجازر الأبرياء، ونحن بالطبع نعذر البابا، لأنه ليس صانعاً للسياسات، ولأنه في النهاية رجل دين وروح وسلام وليس رجل سياسة، فهو رجل سلام في أرض السلام، ولكنها ليست في وقت السلام، ونتمنّى عودته.. فطوبى للسلام ولصانعي السلام...