الجزائر: الانتخابات التشريعية التعدّدية تسقط كل أوهام دُعاة المقاطعة
أن تكون واعياً بما أنت عليه، خير لك من أن تكون جاهلاً به وأنت في أعلى مقام.. أن تكون أيضاً واحداً من أبناء التاريخ، خير لك من أن يقول عنك التاريخ بأنك مجرّد شخص تحكمه عواصف الماضي وتُلغيه رياح المستقبل.
الانتخابات تجديد، وليس تمجيد، بناء متواصل ليس من أجل الكرسي، ولكن من أجل العذاب لإسكات طاحونة الفوضى، وادخار المال العام لبناء ما أمكن من دور للحضارة وللمستقبل، و مصانع تؤسّس لإقلاع حضاري بنّاء، وبناء معرفي يضمن تواجدنا ضمن خارطة العالم بالفعل الإيجابي الموصل باليقين لا إلى الشك في هويتنا وثقافتنا، فهل لنا أن يكون المجلس التشريعي القادم للبناء فعلاً كما هو المجلس التشريعي المنصوص عليه دستوريا وليس" للاعتلاف "، مجلس ينشد قِيَم التلاقي بين أبناء الأمّة الواحدة في رؤية واحدة موحّدة مع المعارضة، في ما عُرف بالوفاق الوطني، أم أنها ستظل مجرّد أفكار وانسياب على أفكار ممن سبق إليها سابقاً ، وللمحسوبية والرشوة مثل بيادق الشطرنج..؟ شخصياً لا أظن ذلك، لأن الأمر هده المرة صحيح مؤكّد من خلو التزوير، فالصندوق وحده أفرز مجلساً متعدّداً وبالأحزاب الإسلامية المعارضة ضمن تشكيلته. مع المعارضات الأخرى.
ولكن مَن الفائز ومَن الخاسِر.. ؟ الأحزاب ببرامجها المتعدّدة والمُتناقضة أحيانا أم المواطن بآماله وتطلّعاته ..؟ لا أحد ينكر أن الانتخابات كانت نزيهة وأن الجيش الوطني الشعبي كان على الحياد.. هي إذن، بداية الحل لا أقول لكل الأزمات ولكن لأغلبها، إن سارت الكتل البرلمانية صوب الواقع وما يتطلّبه هذا الواقع، بشرط أن تكون الكتل البرلمانية حرّة وشفافّة في عملها، أمام ناخبيها وتحترم فيها إرادة الشعب، كما أنها بداية التطبيق الواقعي للفكر المؤسّساتي، وبداية الطريق نحو تكريس مبدأ التداول على السلطة ، شيء آخر تضمنه الانتخابات التشريعية الأخيرة، هو تأكيد ارتباط أصحاب القرار بفكر الأغلبية، وبالتالي بناء قاعدة اجتماعية ذات مدلولات سياسية ، هي من صميم الفكر العام، وإذا تحقّق هذا فإن القانون يكون فعلاً فوق الجميع، وبعيداً عن تأثير ما يُعرف اليوم بـ " الفوق " أو الفوقية ، والتي أصبحت تمثّل عملية سلب للقرار السياسي وأحياناً عملية نهب لمبادئ الديمقراطية . ما أتيح للجميع القول بأننا بلا سياسة واقعية تنتهج سياسة الكل بالكل.
قلت مَن الفائز ومَن الخاسر ..؟ الجواب بالطبع لصالح الكل،لأن الفائز في النهاية هو الديمقراطية، والناخِب والمُنتَخب وهما جزائريان وهو ما يعني أن التصوّر الفكري لبناء المجتمع وفق قاعدة القانون فوق مراكز القوى، والمُنتخبون فعلاً هم صانعوه أي أن المجتمع طبقاً لهذا المنطق لم يعد مجرّد شتات على خشبة الصراع بين الزمر، والوطن لم يعد أيضاً مجرّد خارطة جغرافيا تلعب فوقها رياح المتصارعين على السلطة، وفق رؤى مُتنافرة ، أو مُتدحرجة باتجاه المصالح الظرفية لكتل على حساب كتل أخرى، ولمجموعة ضغط على أخرى، وبالتالي على حساب المجتمع، فالتعديل الدستوري الأخير صحّح النقص ووضح الغامض، وأعد العدّة لكل معارض أن يكون ضمن الكتل البرلمانية وهذا يجعله من ضمن الدساتير العالمية التي تؤكّد على الواقعية السياسية وتجدر لها في صفوف الكل بالكل .
إذن انتهى في الرابع من ماي الجاري عرس الجزائر الكبير.. عرس الديمقراطية ومبدأ التكريس للتعدّدية السياسية..عرس بالتأكيد تمنيناه نحن الجزائريين آن يكون عبرة لمن ادّعوا ويدّعون باستمرار في الضفة الأخرى من البحر الأبيض المتوسّط، إننا على الحافات الكبرى للربيع الدموي المشؤوم..عرس هو بحق امتحان لنا ولقوّتنا الأخلاقية والإنسانية، ثم أخيراً لقوة روح جهادنا وشهدائنا.. كان العرس أمناً وسلاماً وكانت قوى الأمن بجميع أسلاكه مع الجيش الوطني في حمايته لثلاثة أيام بلياليها. ولم يحدث أي مكروه كما يحدث اليوم في فرنسا وغيرها من حرق للشرطة وضرب بالبَيض لأحد المرشّحين.. ولم يكن لا عنف جسدي ولا معنوي بل كان الفكر الحضاري يؤمّن للجميع السلوك الذي يتطلّبه العرس والمبدأ المنشود من ورائه. سواء في المهرجانات التي أقيمت خصيصاً له أو في الحوارات والمناظرات المُتلفزة والمسموعة والمقروءة ..
صحيح نحن الان في العهدة الخامسة للانتخابات التشريعية في ظلّ التعدّدية السياسية والحزبية ، وقبلها كانت ثلاث عُهَد في ظل الحزب الواحد..وما يذكر هنا وبفخر واعتزاز أن الانتخابات الثمانية كلها في كل هذه العهد تمت في مواعدها من دون تأخير ولو دقيقة واحدة. خلافاً لكثير من الدول التي أخّرتها أو تخلّت عنها، وما كان غيرنا من أنصار الشرّ وعلى مدار سنة تقريباً. إلا أن ينظّروا بالقول والدسائس لما قد تأتي به من فوضى عارمة وبالتالي إلغاؤها، أو أنها لن تمر بسلام في ظلّ تقولاتهم ودعواتهم للمقاطعة لها، هذا إن لم تكن دموية ويخرج الجيش إلى الشوارع فإنه ستكون مزوّرة !!..هكذا كانوا ينظرون لليوم المشهود ويتصوّرونه وكأنهم قرّاء الغيب أو يوحى إليهم ، ولكنه كما في كل مرة يخذلون ولا تبدو عليهم الحيرة الكبرى بعد الخذلان فحسب، بل لما لا يفهمون مما يصوغه الواقع في الجزائر عبر التلاحم للقوى الاجتماعية وعبر تراكم للتجارب المنتهية دائماً بالإضافات واغلبها صواباً والقائمة على مبدأ الحسّ الوطني والوجداني القائمين بدورها على قوة النسيج الاجتماعي في بُعده الإنساني والحضاري، يتراجعون نحو الإشاعات وما هم بها إلا قطعان من الأشباح...
يقولون الجزائر محاصرة(هكذا بدؤوا) بنيران الفوضى الدموية من حدودها الشرقية إلى حدودها الغربية، وأن عصابات الإجرام الدموي في الربيع الدموي تتحيّن الفُرَص لإدخالها في اللعبة الدموية كحال العراق وسوريا واليمن، مع حسرتنا لما هم عليه وبالتالي تمزيقها على غرار ليبيا واخطأوا أيضاً رغم أن الجزائر تعيش فعلاً تلك المِحَن بواسطة ما يجري لجيرانها، إلا أنها عالجت بحكمة الكثير منها سواء في تونس أو مالي أو في ليبيا ، ونشرت الجيش على طول حدودها وحتى لدى دول الساحل الإفريقي هي تساعدها..لا حفاظاً على أمنها القومي لأن أمنها الداخلي محصّن ومحفوظ من زمان بواسطة جيشها، وهو جيش يستمد قوّته من روح من سبقوه من المجاهدين . في مقاومة دامت خمسة وعشرين سنة كلّلت بثورة تحريرية شاملة دامت سبع سنوات ونصف السنة.. وللتوضيح أكثر فإن المقاومة في الجزائر هي المقاومة الوحيدة التي دامت خمسة وعشرين سنة، ولا لا توجد مقاومة بهذا العمر في التاريخ البشري، فالحروب الدينية في أوروبا دامت مائة سنة...هذا الرصيد التاريخي يؤمّن للجزائر مساحة اللعب على كل الحافات، لعب يجعلها عصيّة على السقوط، مهما كانت المؤامرات، وعصيّة على الانجرار نحو الدخول في لعبة الموت..وهنا يمكننا الجزم بأن الجزائر أمّة تقود التاريخ ولا يقودها وتصنع الأمل لها ولغيرها.. وعلى العالم العربي بالخصوص أن يتعلم من تجارب الجزائر مع الأحداث وكيف تحوّل السيّئ منها إلى طاقة إيمان بالوحدة الوطنية وبالتسامح بين الرأي، والرأي الأخر.. طبعاً في السياسة الجزائرية طابع خاص متميّز بالهدوء وهدم الدخول في المهاترات السياسية حتى في الظروف المتآكلة ،هدوء حذر، وهدوء مُبرمَج، وإن معالجتها للأزمات تأخذ ملبسها من جذور المسيرة التاريخية لها..
لقد تعرّضت الجزائر في العشرية السوداء إلى عمليات تفكيك مُمهنج وكاد أن يكون المأزق أكثر من أن يستوعبه التاريخ .. وقد صدق " لويس أراغون " حين قال : " لو باع العرب حزنهم لاشتروا العالم بالذهب " وما أكثر أيام الحزن وأيام الموت في الوطن العربي .لعبت فيها المخابرات الفرنسية والوهّابية الدور الأساس ، وواجهت المحنة لوحدها حتى من كانت تظن أنهم من أصدقائها وممن قدّمت لهم الكثير من المساعدات كانوا شوكة في ظهرها، وهنا أتذكّر أنه في عزّ الأزمة (أزمة التسعينات) توجّه رئيس الحكومة ( قاصدي مرباح) إلى دولة خليجية وطلب منها قرضاً مالياً لسنة فكان ردّ تلك الدولة "ليست لدينا أمولاً" نساعدكم بها" نقدّم لكم 15 مليون دولار"..؟ فعاد غضباناً آسفاً ولكن بعزيمة أقوى لمواجهة الواقع وتحدياته، وتوجيه الجميع صوب الذات الوطنية لترميم المجتمع بعيداً عن الدعوات الزائفة والشعارات التي تخفي وراءها الكثير من الحقد ومن سوء النيّة لواقع الجزائر وتاريخها.
مرّت إذن، الانتخابات التشريعية الخامسة بمُتنافسين لحوالى تسعين قائمة حزبية وأحرار ومن دون أن يقذف أحدهما الآخر، رغم ما أصابها من طعون على قلتها وعدم جدواها وهذا هو المهم، لأنه يعني باسط القول أن الجزائر أمام تعدّدية سياسية حقيقية إن لم تكن في قلبها، وبدأت بذلك تضع أقدامها بهدوء داخل المنظومة الفكرية للمفهوم الديمقراطي بواقع وطني ، وليس بواقع خارجي، وبدأت معها العملية التحولية صوب الفهم المستقبلي لمعنى التعدّدية كأداة سياسية للحُكم، والتنظير للمستقبل وفق رؤى تعدّدية الأصل، والمنهج الحاصل منها بناء مجتمع مستقرّ تحكمه سياسياً وتشريعياً حاصلات الانتخابات التعدّدية فيه، حاصلات واقع حال وواقع مستقبل ، والمعارضة مُصانة ومحمية دستورياً ولها - حتى وإن كانت أقليّة - الحق بالتواجد داخل الكتل البرلمانية ، بهذا المستوى يمكن التأكيد أننا خرجنا من التعدّدية الشكلية إلى جوهر التعدّدية المُحقّة، ولكن بالتأكيد ضمن المرجعية الوطنية وثوابت الأمّة، الثوابت التي تمثّل في الأصل ضمير الأمّة والوطن، وعلى رأسها الإسلام واللغة العربية وهي قاسم مشترك لكل أطياف المجتمع من حيث المذهبية الدينية ( مالكية وأباضية )، ومن أحزاب إسلامية أو وطنية، راديكالية كانت أم غير راديكالية..في الآراء تختلف والرأي الآخر من الآخر محترم، وفي المبادئ والمقدّسات دم الشهداء شاهد وحاضر.