الغاز القطري لعلاج أوهام الانتعاش

في بداية الأزمة الاقتصادية العالمية (2008-2009)، تفتّقت عبقرية رئيس الوزراء الأسترالي آنذاك "كيفن رد" عن فكرة ملخّصها أنّه إذا زدنا معدلات الإنفاق الحكومي بشكل كبير، حتى لو كان عن طريق الإستدانة وزيادة العجز المالي للدولة، وذلك عبر طرح مشاريع جديدة أو منح مساعدات مالية للعائلات الأقل دخلاً، فإن هذا من شأنه أن يزيد معدّلات الاستهلاك عند العامّة بحيث تتجاوز البلد حال الركود المتوقّعة نتيجة هذه الأزمة، وآملين في نفس الوقت أن "تتعلّق" أستراليا بذيل الاقتصاد العالمي عندما يبدأ بالنمو من جديد، فتنمو معه، خلال سنتين أو ثلاث، كما هو متوقّع في كل حالات الركود الدورية.

سياسة الانتظار وتأجيل مواجهة المشاكل قد لا تكون الحل الأمثل إذا لم تساعد السياسة والحروب
مرعي صالح

تجاوزت أستراليا حال الركود فعلاً عندما وزعّت الأموال يميناً ويساراً وربما كانت الدولة الوحيدة من بين كل الدول المتقدّمة التي تنجح في ذلك، بل وقامت على عكس كل دول العالم برفع نسبة الفائدة بدءاً من أكتوبر 2009، قبل أوانها المنطقي، متأمّلة أن تتحوّل توقّعاتها السابقة إلى حقيقة. المشكلة هنا أن الاقتصاد العالمي لم ينهض كما كان متوقّعاً، فتجمّد الاقتصاد الأسترالي عند حدود ما قبل الأزمة، ما اضطر الحكومة العمالية، ولكن بعد عامين من العناد والأمل، إلى خفض نسب الفائدة بشكل كبير من أجل تحفيز الاقتصاد، لتصل الفائدة إلى مستويات تاريخية غير مسبوقة، كلّفتها رئاسة الحكومة في انتخابات 2013.

 

أصبحت الحقيقة الآن واضحة للجميع وهي أنها ليست أزمة ركود دورية وعادية بل هي أزمة عميقة عمرها اليوم عشرة أعوام تقريباً. الحقيقة الأخرى هي أن سياسة الانتظار وتأجيل مواجهة المشاكل "بانتظار حدوث شيء" قد لا تكون الحل الأمثل إذا لم تساعد السياسة والحروب، لمن يؤمن بها أو تشكّل جزءاً من عقيدته، في خلق التغيير المطلوب. في السابق، كان البديل الآخر لتجاوز مثل هذ الأزمات هو في أن تقبل نتائجها وأن تدخل طوعاً في حال الركود (The recession we had to have). هل يعرفون ما لا نعرفه؟ وهمٌ آخر يشيّعه دونالد ترامب، أميركياً، لترجيح خيار الانتظار: عقود بمليارات الدولارات، وظائف وأسواق مالية مُنتعشة.

 

وكأن الأموال العربية هي أموال موجودة في بلادها وأنّ ثمرة هذه العقود هي أن تقوم حكوماتنا "بتحويلها" إلى أميركا. أو أنها موجودة بكاملها في أميريكا ولكنّها محفوظة بخزائن مكتوب عليها أسماء هذه الدول، وأن هذه العقود "ستحرّرها" أو كأن صفقات الأسلحة كانت ستذهب إلى دول أخرى، لكن عبقرية "ترامب" منعتها من ذلك أو أن لدى هذه الدول القدرة على استرجاع أموالها في الوقت الذي تريد. تهمة واحدة بالإرهاب تكفي لحجز هذه الأموال كما حدث مع إيران وغيرها سابقاً. كل أموال العرب وغيرها موجودة في بنوك أميركية أصلاً وهي تخضع كغيرها من رؤوس الأموال إلى نسب ضمانات الأصول المعروفة، ويتم استخدامها، أو حتى استخدام أضعافها، بحُجّتها، سلفاً في دورات التسليف والاستثمار العالمية. لا جديد في كل عقود وصفقات ترامب.

 

تداري الدول الرأسمالية أزمتها بالحديث عن أسواقها المالية كمؤشّر لقوة الاقتصاد. لا يخلو هذا من بعض الصحّة ولكنّه مبالغ به من حيث أنّه في الأساس مؤشّر لربحيّة الشركات (200-500 شركة)، وأن هذه الشركات لن تعدم الوسائل للمحافظة على مستوى ربحيّتها من خلال التأقلم، الاستغناء عن الوظائف واستبدالها بآلات. التضليل يتجاوز الأسواق المالية إلى نسب البطالة. في أستراليا مثلاً، تفقد أسواق العمل الوظائف الدائمة بشكل كبير، ولكن يبقى مؤشّر البطالة كما هو لأن حجم الوظائف المؤقتة، كأن تعمل ساعتين مثلاً في اليوم، يعّوض هذا الفرق إحصائياً. نادراً ما يتحدّثون عن القدرة الشرائية. هي سياسة الانتظار وبيع الأوهام إذن من جديد على أمل "حدوث شيء".

 

كنت أحاجج كثيرين أن أميركا ليست غبيّة لكي تحتل العراق وأنّها إذا احتلّته فسوف تكون قد ارتكبت أكبر خطأ في تاريخها، كما أنني لا أعتقد أن الفاتورة الأميركية لهذه الحرب، وهي فاتورة تقدّر بمليار دولار يومياً على أساس حسبة بسيطة لتكاليف 500ألف جندي، دفعها آخرون. جاءت هذه الحرب في الوقت الذي لم يتبقَ فيه قرش عند أحد فدفع الشعب الأميركي غالبيتها، وهي أحد أهم أسباب ما نحن فيه. لذا أصدّق "ترامب" عندما يقول أن حرب العراق هي أكبر خطأ في تاريخ أميركا الحديث ولعكس مفاعيلها، أميركا تريد، من العالم، مليار دولار يومياً لعشرات السنين. ما يحدث في بلادنا منذ ست سنوات هو حرب عالمية ثالثة بين الرأسماليات لكن بالوكالة هذه المرة. تشكّل معسكران كبيران تبعاً لذلك، كل معسكر يتكوّن من نواة صلبة قوية مقرِّرة وأطراف مساعدين وآخرين متفرّجين.

مَن يدفع التكلفة الأكبر هو الطرف المهاجم والغازي لأنه لا يحارب على أرضه، وكذلك من يكلّفه الوقت خسائر أكثر بحكم تطوّر مستوى معيشته وتقدّمه التقني. عندما تطول المعركة ويرتفع الثمن، يزداد الاستقطاب داخل المعسكر الواحد. من يستطيع أن يدفع ليبقى في النواة أو قريباً منها سيفعل، ومن لا يستطيع، قد يبدأ بأكل بعض أطراف معسكره ليستمر في الوجود. فقراء كل معسكر يسقطون سقوطاً حراً، أشبه بنظرية الانتخاب الطبيعي. لتمويل الحروب المستمرّة وللخروج من الأزمة، لا يبدو الحديث عن صفقات بعشرات المليارات كافياً لتفسير ما يحدث. يصبح المطلوب هو حقول غاز بأكملها، ونقل كل الاستثمارات الأوروبية والصناديق السيادية إلى أميركا.

 

تقاسم ثلاثي لضحية رابعة على ما يبدو!