داعش من عاصمة "الخلافة" إلى الصحراء

تنظيم داعش سيراهن على الدعاية بعد خسارته الموصل ويتحيّن الفرصة عن أي خلاف داخلي في العراق كي يعود إلى الواجهة.

خطورة خطاب داعش ما بعد الموصل تكمن في العمل الدعائي
في العاشر من حزيران/ يونيو 2014، دخل تنظيم داعش الموصل بقوافل ضخمة من العربات المحمّلة بالمقاتلين، فاستولى على ملايين الدولارات من فروع البنك المركزي في الموصل، وغَنِمَ كميات هائلة من المعدات العسكرية والمدرّعات، وآلاف سيارات الهمر والمدافع والصواريخ. يُضاف إلى ذلك الدعم الخارجي والأموال التي جناها من بيع النفط، فوصفته بعض الصحف العالمية يومها بـ"التنظيم الإرهابي الأغنى في العالم".

التكيّف مع حياة ما بعد الهزيمة

ودشّنت مرحلة ما بعد سقوط الموصل، ما يُسمَّى بمرحلة "التمكين" على حد تعبير المنظرَيْن السلفيَّيْن الجهاديَّيْن أبو قتادة الفلسطيني وأبو بكر ناجي. تمثّل ذلك عملياً بإعلان "دولة الخلافة الإسلامية" التي افتتحها أبو بكر البغدادي بخطابه الشهير من داخل الجامع النوري في الموصل. أتبع ذلك بجملة إجراءات فاقت ما تمّ تطبيقه في الرقة من قبل، أوحت بتأسيس دولة حقيقية: حِسبة، برامج تربوية في المدارس، فيما خصّت مجلّة (دابق) الالكترونية التابعة للتنظيم عددها الأول بمانشيت "عودة الخليفة".

لطالما عُرِف عن داعش رغبته بإظهار جهوزيّته وسطوته وقوّته، وما لمقاتليه من عقيدة ووحشية. لكن اليوم وعلى وقع هزيمته في الموصل. عاد التنظيم ليُصوّر نفسه كمن يبدأ من الصفر، كمن يستجلب التعاطف، فهو عاد يتحدّث عن مرحلة النكاية التي كانت استراتيجيته المُتّبعة طيلة السنوات السابقة على احتلال الموصل.

بتاريخ 30 حزيران/ يونيو، نشر التنظيم تسجيلاً مرئياً على اليوتيوب، مدته 19 دقيقة و16 ثانية تحت إسم "عرين المجاهدين - ولاية الفرات). يبدأ التسجيل بعرض مقتطفات من تقرير لإحدى المحطات التلفزيونية يظهر فيه مشهد لشيخ عشيرة عراقي وهو يتحدّث عن "الأخوّة بين السنّة والشيعة"، ليُعلّق المذيع بأنَّ "العشائر العراقية وهي تساند الجيش العراقي قد وضعت نفسها في مواجهة مع التنظيم".

ويتلو ذلك مقطع عن استمرار سيطرة داعش على مناطق في عُمق الصحراء. هنا تبدأ رسالة المُتحدّث باسم التنظيم "على رمضاء الصحراء ترعرع جيل صلب الإرادة .. فكانت الصحراء وما تزال عرين المجاهدين وقبور المرتّدين". يظهر مقاتل على جنب طريق صحراوي سريع وهو يقول "وقد أمّنّا الخط الرابط بين عمّان وبغداد". 

في المقطع الثاني من نفس التسجيل، يظهر مقاتل يستهدف عربات للجيش العراقي على طريق صحراوي. يتكلّم المُتحدّث عن "استخدام الروافض للطرق الصحراوية في صحراء الفرات". ثم يظهر تفجير عامود للاتصالات مصحوباً بالتكبيرات وأناشيد "لامة الحرب لبسنا وعن قتال ما وقفنا". تتّضح من ذلك رغبة ومحاولة لإظهار التكيّف السريع والفوري مع حياة الصحراء والاستفادة من طريقة حرب العصابات والتمويه والتخفّي.

عزاء المقاتلين بسقوط الخلافة

بالتزامن مع مناجاة حزينة هذه المرّة، يتراءى مشهد لمقاتلين ملثّمين، ينكث أحدهم الأرض بخنجره ويشرع بجمع الرمال والتراب بيديه ليضعها في وعاء، ثم يُضيف إليها الماء. يأخذ عنصران من التنظيم بطلي سيارة بيضاء وحيدة بالرمال الحمراء، يترافق ذلك مع ترداد المنشد لعبارة "الجرح في جسد العقيدة دامياً". يُحيط بالمنشد بضعة مسلّحين ملثّمين جالسين. يكمل المتحدّث كأنه يعلّق على المناجاة "حياة المجاهدين خضوع، واستسلام مطلَق لله سبحانه .. فتضاءل في أعينهم الكفار". يصحب ذلك مشاهد مقاتلين في الليل يحملون القاذفات عند الفجر. ثم مشاهد هجمات وتمثيل بالجثث، وأناشيد تحنّ إلى عودة مجد الخلافة ورفع علامات النصر.

يعود المتحدّث إلى ما قبل "الفتح المبارك" قاصداً دخول داعش للموصل، وكيف كان مقاتلو داعش يتّخذون من الصحراء معسكراً للانطلاق، مبرّراً ذلك بكونها (الصحراء) "الأقرب إلى المدن والأكثر هيبة ورهبة في صدور المرتّدين". ثم يستحضر ما يُسمّيه "تهاوي حصون المرتّدين"، ويذكّر بمقدار الغنائم الهائلة التي حصل عليها تنظيمه من الثكنات والمواقع العسكرية التي كانت تتكدّس فيها الآليات والمعدات، فغَنِمها "المجاهدون"، واتّخذوها وسيلة وعدّة للزحف.

شعار داعش الجديد: جهادنا ماضٍ إلى يوم القيامة

ويصل المُتحدّث باسم داعش إلى لبّ القضية التي ينوي الحديث عنها، وهي فقدان القيادة والكوادر وطريقة استعادتها أو التعويض عنها. فبعد أن يتمّ عرض مشهد لمقاتلين يبايعون "أمير المؤمنين أبو بكر البغدادي"، "على السمع والطاعة"، يذكّر المُتكلّم بكثير من الحنين بمرحلة الازدهار العسكري في ظلّ خلافة البغدادي في الموصل "مشاهد لمقاتلين يتحضّرون لاستخدام صواريخ مضادّة للدروع"، ثم يتحدّث عن تطوّر أساليب القتال، وتوسّع الخطط وتركّز الضربات، وكيف "انتقلت الهجمات من النوع إلى الكمّ والنوع".

ثم يأتي دور الكلام عن الاستطلاع قبل كل غزوة، وعن جمع المعلومات، ونقاط الوَهن عند العدو (مشاهد لقوافل من سيارات داعش المموّهة بالوحول والرمال). يتراءى ذلك على وقع الأنشودة الأهم في التسجيل، والموجّهة إلى مشايخ السلفية العلمية  "كذب الذين تقولوا أن لا جهاد ولا نزال".. يظهر واضحاً ما شكّلته هزائم داعش وآخرها في الموصل، من ضرب لأساس العقيدة الجهادية للتنظيم ولحججه ومشروعيّة خلافته أمام خصومه من داخل البيت السلفي بمختلف تياراته، ولكن من الواضح أن الرسالة موجّهة إلى مشايخ السلفية العلمية وخاصة السعوديين منهم. يستحضر الشريط معارك سابقة في الصحراء، ويستبدل شعار داعش "باقية وتتمدّد" بشعار آخر يناسب وضعيّة داعش بعد هزيمة الموصل وتقلّص رقعة سيطرتها، "جهادنا ماضٍ إلى يوم القيامة".

معطوفاً على ما يجري في الموصل، ومن خلال هذا التسجيل المرئي، يظهر داعش وكأنه قد أصيب بنوع من النكوص القصري المباغت، ولكنه نكوص يحتفظ له التنظيم باستراتيجية عسكرية وإعلامية ونفسية جاهزة ومُعدّة سلفاً وموروثة من مرحلة التنكيل وقبلها التوحّش. الخطاب المستجد بعد السقوط الكبير، يخلو من أية إشارة لحور العين والنعيم كما كان الحال في الموصل أو الرّقة، فهنا عاد الحديث عن هدف "نكاية العدو"، إذ يقول التسجيل المرئي "خُصص لمرحلة الاقتحام أجنادٌ شدادٌ قد بايعوا على الموت في سبيل الله، هدفهم إلحاق أكبر نكاية بالعدو ". يبدو واضحاً المنظور الذي يفهم من خلاله داعش دولة الخلافة بوصفها دولة حرب ونِزال أزلي، دولة صراع علاقاتها قائمة على الشوكة والقوة، لا تعيش إلا على القتل وبثّ الخوف والرعب والنزاع المستمر مع كل من هو آخر. وهي أيضاً لا تحيا في المكان والزمان. ولا تتبنّى إلا خيارات نهائية، إما دولة الخلافة أو الانتحار الجماعي المُدمّر للذات وللآخر على حد سواء، هكذا كانت حروب التنظيم بدءاً بجرف الصخر، مروراً بالرمادي والفلوجة وانتهاءً بالموصل.

وتكمن خطورة خطاب داعش ما بعد سقوط الموصل بالآمال التي تعلّقها قيادة التنظيم، أو ما تبقّى منها، على العمل الدعائي والاستجابة المحتملة من قِبَل أية شرائح مصابة بالإحباط من جرّاء ما سبّبته الحرب.

من هنا تأتي أهمية التأكيد على البعد الدعائي المضاد للإرهاب. والحذر من كل ما من شأنه أن يولّد في المستقبل رغبة بالثأر لدى شرائح وفئات جماهيرية مهما كان حجمها، فلطالما سعى التنظيم إلى استغلال الأعمال القمعية والعنيفة ضد فئات معيّنة، ليوظفّها كوسيلة جذب للتعاطف مع طروحاته، ثم لاستثمارها في ما بعد في عمليات التجنيد والتحشيد والتعبئة، كما حصل بعد غزو العراق. 

من الضروري التأكيد على أهمية مكافحة الإرهاب عبر كافة الأشكال والطرق المتاحة وقائياً وفكرياً. مع العلم أنّ ذلك لا يكون إلا عبر فهم الخطاب التعبوي لهذا التنظيم، ومدى تأثّر أهالي المناطق المُحرّرة في الموصل وسواها بدعايته وحربه النفسية التي مارسها عليهم بشكل مباشر طيلة سنوات. فالدعاية هي الوسيلة الأنجع لكسب العقول والقلوب، لا يُعقل أن تغفل عنها دولة لديها كل المقدّرات بينما، تبدع فيها منظمة إرهابية.  

إنّ القضاء على داعش في الموصل من شأنه أن يؤدّي إلى القضاء النهائي عليه في كل العراق، ولكن بشرط أن تضع الأحزاب والقوى السياسية العراقية خلافاتها جانباً، وأن تجتمع على رفض أيّ تدخّل خارجي يُثير النعرات الطائفية التي تُشكّل البيئة الأنسب لتفريخ داعش وأمثاله. ولا بدّ من أن تعمد الحكومة ومعها كل الأطراف إلى وضع المجتمع الدولي ودول المنطقة أمام مسؤولياتهم في اتّخاذ كافة الإجراءات التي من شأنها أن تحول دون تدفق الدعم المالي والعسكري لهذا التنظيم. 

وإذا ما ترافق أي شعور بالغبن، مع خلافات طائفية وتدخّلات خارجية وتهاون في المناطق الطرفية والصحراوية، عندها سيشهد العراق عودة لبروز داعش جديد ربما أكثر شراسة وتدميراً .. فالأمر يتطلّب تشكيل حكومة وحدة وطنية حقيقية تمدّ يدها إلى العشائر السنّية والشيعية، لأن داعش يُهزَم بالوحدة وينتعش بالتشرذم.