ترامب في مهبّ رياح المؤسّسة.. هل أصبحت أيامُه معدودة؟
ترسم الأحداث الداخلية والدولية خطّ سير الرئيس الأميركي. وتلك الأحداث تصنعها، غالباً، المخابرات الأميركية المرتبطة بقوّة بالمؤسسة Establishment الحاكمة فعليّاً. لا يصنع الرئيس الأميركي الأحداث بل تصنع له حسب المُخططين خلف الستار، وما عليه إلا أن يلاحق تلك الأحداث ويفعل ما هو منتظر منه.
واليوم، يجد الرئيس الأميركي المباشر نفسَه مُرغماً على توقيع ما لا يريد التوقيع عليه واتّخاذ القرارات التي يتم دفعه نحوها. أصبحت روسيا السكّين الذي تضعه المؤسّسة، وواجهتها الكونغرس، على رقبة ترامب. كان موقف ساكِن البيت الأبيض تجاه روسيا أثناء حملته الانتخابية مُتوازناً إلى حدٍ مُعيّن. رفض توجيه انتقادات إلى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين وأبدى انفتاحاً على علاقات أفضل بين الولايات المتحدة وروسيا. وكان هذا الاتجاه يعكس إلى حد كبير موقف الرأي العام الأميركي، حيث كان 56 في المائة من الأميركيين يُفضّلون التعاون مع موسكو على العمل للحد من نفوذها، حسب استطلاع أجراه "مجلس شيكاغو" في أوائل عام 2016. بينما أفاد استطلاع آخر لمركز "بيو" أن 23 في المائة فقط حدّدوا روسيا بوصفها "عدواً". عملت النخبة الحاكمة في الولايات المتحدة، منذ أن أوصلت ترامب إلى الحكم بأصوات المندوبين، على توجيه الأحداث وجعل الرئيس يوقّع على ما يريدون إلى درجة أصبح فيها ترامب بشكل واضح تحت وصاية الكونغرس. ظنّ الرجل في البداية أنه سيكون رئيساً فعلياً للولايات المتحدة يُحدّد سياساتها الداخلية والخارجية حسب ما يراه هو. ولكنه بعد تجربة أشهر قليلة في البيت الأبيض يشعر أنه وقع في فخ كبير وأنه جيء به ليكون مُجرّد ممسحة تماماً كما هي حال سابقيه. الفرق بينه وبينهم هو فقط وعي الرؤساء السابقين بهذا الأمر وقبولهم بلعب الدور من دون تعنّت، بينما برهن هو على أنه لم يفهم ذلك وظنّ خطأ أنه صاحب القرار في سياسات الدولة. كانت ولاية أوباما مجرد مرحلة. وبعد مجيء ترامب كان قرار المؤسّسة العودة فوراً إلى نظرية وولفويتز في المواجهة والسيطرة. وقد ساهم مدير موظّفي البيت الأبيض المُقال، راينس بريبوس، في التخطيط لاتّهام دونالد ترامب بالتواطؤ مع روسيا، لرفع حدّة اللهجة تجاهها وإجبار الرئيس على الخضوع، كخطوة أولى. اتّهمت روسيا منذ البداية بالتدخّل في الانتخابات الأميركية والتأثير على أصوات الناخبين. وهو اتّهام رفضته روسيا. وأصبحت نسبة الأميركيين، الذين يرون في روسيا البلد الذي يُمثّل الخطر الأكبر، 31 في المائة.. التركيز على روسيا واعتبارها عدواً وخطراً وتهديداً للولايات المتحدة ليس شيئاً بلا خلفية أو أساس، بل إنه يقع في عُمق النوايا الخفيّة للمؤسّسة الحاكِمة التي تريد افتعال صِدام مُرعب مع الروس تحقيقاً لأهداف يقولون إنها سياسيّة هدفها ردْع الروس بينما هي في الحقيقة دينية بشكل أساسي. خسر ترامب شعبيّته في ظرْف أشهر، وأصبحت تلك الشعبية الهشّة، بالأساس، في الحضيض بعد الهجمة التي قادها الديمقراطيون المُموَّلون بقوة من الملياردير اليهودي جورج سوروس والمدعومين من الإعلام الأميركي المؤيّد لهم كما هي حال السي آن آن. حوّل الإعلام الأميركي روسيا إلى عدو، وحَشر ترامب في الزاوية، وجعله يوقّع مُكرهاً على قانون إجراءات الحظر الجديدة التي ستفرض عقوبات تجارية على إيران وكوريا الشمالية روسيا التي اعتبرتها على لسان رئيس وزرائها مادفيديف "حرب تجارية شاملة" على موسكو. بل إن بنود هذا القانون تَحْظر على الجهاز التنفيذي، تخفيف هذه العقوبات بأي شكل من الأشكال، وهو ما يجعل دونالد ترامب مُقيّد اليدين والقدمين. المُلفت هو أن الإجراءات الجديدة ليست مؤذية فقط لروسيا، بل إنها تطال أيضاً الاتحاد الأوروبي والصين مثلما تُطبّق على الدول المُستهدَفة رسمياً. والمُتضرّر المباشر من هذه العقوبات هو شركات ألمانية كبري عاملة في ميدان الطاقة والغاز، حيث ستُحرم ألمانيا من أن تصبح أكبر مركز في أوروبا لتجميع الغاز الروسي وبيعه بفضل أنبوب الغاز الجديد أنبوب الشمال North stream. هذا الأمر يبدو مقصوداً هدفه دفع ألمانيا نحو المحور الروسي. وفي المقابل تعمل بولاندا على تهيئة موانئها لاستقبال الغاز الأميركي المُذاب لتتمكّن أميركا من التحوّل إلى واحد من أكبر اللاعبين في سوق الغاز الأوروبي. ولا يمكن للاتحاد الأوروبي ممارسة أية ضغوط على بولندا التي هدّدت بالخروج منه إذا حاول التدخّل في سياستها الداخلية. والمُبرّر الذي تقدّمه هو عدم رغبتها في استقبال لاجئين. يشعر الأوروبيون الآن أنهم تلقوا صفعة شديدة بعد موافقة أصدقائهم في واشنطن من الديمقراطيين والجمهوريين على قانون يقضي على آمالهم في تحقيق نمو داخل الاتحاد الأوروبي. لا شك أنها كانت صدمة قاسية، لكنهم مع ذلك لم يعترفوا حتى الآن بأن دونالد ترامب، ليس هو مَن يحكم حقيقة. وأن المؤسسة، التي جعلت من الكونغرس يدها وذراعها، هي التي تحكم، بعد أن جعلت قادة الحزبين، الديمقراطي والجمهوري، يتّفقون على التصدّي لسياسات ترامب، للحفاظ على امتيازاتهم الإمبراطورية. لم يكن ذلك بعيداً عن دعم بارونات المال وتشجيع اللوبي الصهيوني الواضح.
يريد الحزبان الكبيران في الولايات المتحدة، معاً، كسر "عقيدة ترامب" القائلة بأنه ينبغي على الولايات المتحدة أن تتقدّم بوتيرة أسرع من الآخرين للحفاظ على الزعامة العالمية. ويسعَوْن، على العكس من ذلك، إلى إعادة إرساء دعائم "نظرية وولفويتز" لعام 1992 القائلة بأنه ينبغي على واشنطن أن تحافظ على أسبقيّتها على بقيّة دول العالم، وإبطاء تطوّر أيّ مُنافس محتمل لها. وقد حدّد وولفويتز في ذلك الحين أن المُنافس الأكثر خطورة للولايات المتحدة هو الاتحاد الأوروبي الذي ينبغي على واشنطن أن تدمّره سياسياً واقتصادياً.. لم تأت المؤسسة الأميركية بترامب ليكون الإسفنجة التي تمتص ثروات العرب، والقُفّاز الذي يُستخدم للزجّ بالخليجيين في أتون حروب داخلية وإقليمية، والأفعى التي تتمدّد اقتصادياً في أوروبا على حساب الروس، فحسب، بل جاؤوا به، بالأساس، لإفشال العمليات الروسية الحالية في أوكرانيا وسوريا، واستفزاز موسكو من أجل جرّها إلى ردود فعل غير محسوبة.. ومَن يدري، فقد يتم التخلّص منه بعد أن ينهي مهمّته كما يصرّ خصومه.