الهويّة بوصفها ....ترياقاً

عملياً الهوية ضرورة إنسانية مجتمعية لا مناص منها. ولكنها في نفس الوقت لها استحقاقاتها ومُتطلباتها فمن لا يستطع إليها سبيلاً، ولا يملك عوامل الحصول عليها، فليصمت عن التنظير بشأنها لأن في ذلك خطراً عليه والخطر ليس في فقدانها فهي بالأساس هويّة وهمية أو مزوّرة في أحسن الأحوال. ولكن الخطر عليه بمواجهة الفناء ببساطة نتيجة طرافته وخياله المحدود.

الهويّة هي سؤال حَداثي لم يكن موجوداً لولا عصر الأنوار الذي أدّى إلى نهوض المجتمعات /الأمم
لم أرَ ولم ألمس  حتى الآن فوائد إيجابية للهوية،على الرغم من ضخامة كميات الكلام والكتابة والنتظير لها وحولها. وعلى الرغم من كثرة التجمّعات والتحزّبات الهويّاتية التي تُحاصرنا. كما أنني لم ألحظ وجود هويّة لنا جامِعة مانِعة تساوينا مع  بعضنا ومع الآخر الإنسان وتوحّدنا أو توحّد أفعالنا تجاه هدف أو غاية واضحة ومُعلنَة. ولم ألحظ في مجموع هذه التنظيرات والأبحاث أي ذكر للحريّة والاختيار أو للإرادة  بالالتزام بالمعرفة كحق وواجب. والأهم من كل هذا وذاك لم أرَ وطناً ناجزاً لهذه الهويّة بل مُجرّد بلاد فيها عِباد يتمزّقون بين هويّات صاعِدة نازِلة حسب ضغط السلطات الاجتماعية (وليس المجتمعية على أية حال) من دينية وسياسية وعرفية وفلكلورية، لدرجة أن سؤال لماذا علينا أن يكون لنا هويّة؟ يصبح بديهياً ومشروعاً. فالهجرة بشكلها الفاقع والأمنياتي ( وهذا قبل "الربيع" العربي بمدة طويلة ) والحروب الأهلية بأشكالها المُتعدّدة، والفرز الهويّاتي الصامت وضيق الرزق والحرية وشحّ الكرامة الإنسانية، وعدم وضوح الوطن بمعنييه الجغرافي والحقوقي،هي بعض أسباب لجعل هذا السؤال مشروعاً في إشارة حانقة إلى عدم فائدتها في العيش الاجتماعي الفصامي الذي تعيشه التجمّاعات السكّانية في عالمنا العربي .

ربما تُثير الاستغراب وربما الغضب هذه المصارحة البسيطة، الناتجة من المقارنة مع الواقع المُعاش. وربما يُكذّب الكثيرون هذه "الخبرية " ويشهرون هويّاتهم الفرعية والجمعية مع تعهّد حماسي على الحفاظ على التوافق والتوفيق بينها، في امتداح شعري غنائي لموزاييك البلاد التي تضمّ بين جنباتها مختلف العناصر و"المكوّنات" في توافق تام منذ أقدم العصور! "التاريخية" ! والذي يدلّ على غناها الحضاري والتمدّني ومقدرتها في حال "شدّت حيلها" على العطاء الثرّي لنفسها وللبشرية. ولكن الواقع الهويّاتي المُمارَس يُكذّب غطّاس المُتعمقين في فهم الهويّة. فما نملكه معرفياً حولها ما هو إلا إنشائية من محفوظات مدرسية ترجع الأمور إلى أصولها عائدين بها في تناسُل زمني إلى وقتنا الحاضر .

 

الهويّة هي سؤال حَداثي لم يكن موجوداً لولا عصر الأنوار الذي أدّى إلى نهوض المجتمعات /الأمم ،ولا يمكن الإجابة عليه بتُراثية تفكيرية تُهيّج اللوعة والحنين والفخار والتأسّي بأحداث أضحت من الماضي المعرفي كدليل على صحة قضية حاضرة. واستنطاق التاريخ والتُراث بهذه الطريقة القسرية للإجابة على سؤال لم يكن في وارده، هو كمن يتّهم نفسه بأنه أكتشف عدد الساعات التي تحتاجها السيارة كي تقطع المسافة بين دمشق وحمص منذ عام 700 ميلادية، مُستغرقاً في ذلك كل التجربة المعرفية للبشرية ومُنجزاتها وتجاربها ومُعتقداً أن السيارة ما هي الا جمَل حديدي يعدو بسرعة 100 كلم بالساعة. نعم بهذه البساطة يتمّ النظر إلى الهويّة كشأن تأسيسي للهيئة الاجتماعية، وبهذه البساطة يتم النظر إلى المجتمع كحادث لغوي يُعرّف الجماعة بالمجتمع. ولكنّ التجمّع  حال والمجتمع حال أخرى مُختلفة تمام الإختلاف .

والهويّة هي إعلان عن الوجود  للنفس وللآخر.ولكن عن أي وجود مفهوم من قِبَل الآخر نتكلّم ؟ هل  عن الوجود الاجتماعي أم عن الوجود المُجتمعي ونحن في عصر المجتمعات حتى الآن شاء من شاء وأبى من أبى وقد يتغيّر لاحقاً.هذا الوجود المجتمعي الذي يتكفّل بتأمين عوامل وجوده ذاتياً أولاً ثم يُنافس الآخر بمنتجاته الإبداعية  ثانياً. وهنا يكمن الإعلان عن الهويّة وليس بمُجرّد المسمّيات التي تقضي الاعتراف بوجود بشر في بلاد ما خضوعاً للشرعة العالمية لحقوق الإنسان التي لا تستطيع ترقية الوجود الجماعي إلى وجود مُجتمعي مهما كانت نوعية المساعدات والإغاثات التي تفترضها هذه الشرعة ، الهويّة بالمعنى الإنساني هي للمجتمع المُنتِج فقط أما التسميات فهي مشاع بين البشر والبلدان.

يُفترض بالهويّة أن تكون شأناً إيجابياً أي أن حضورها هو محضر خير، بمعنى أن يكون لحضورها تفعيل لاحترام الإنسان والكرامة الإنسانية والأمان والتسالم والخ، وليس دعوة للعداء والتمتّرس ضدّ أي كان، فإذا كان حضورها شرأ وفي كثير من الأحيان شراً مُطلقا تجري من تحته الدماء، فكيف يمكن النظر إليها أو إلى ضرورتها وما هي ضرورة أن يتمايز الشُقر في هذه البلدان بهويّة خاصة ، (إذا لم يكن من معنى للهوية سوى العداء) ضدّ السُمر الذين يعلنون هويّة مُختلفة ؟ لا يعني ذلك سوى التظالم الذي يبدأ بالفرز الصامت وينتهي بالدماء والخراب. ومن هنا يبدو علينا التساؤل والتدقيق قبل تبنّي أية هويّة  هل هي هويّة إيجابية أم هي هويّة سلبية تقودنا إلى الشر عبرالاستقطاب ومُراكمة العنف الصامت الذي لا مناص لانفجاره عاجلاً أم آجلاً .

بحسب ما هو معروض علينا من هويّات أعتقد أن الانتقاء بينها يبدو كمن ينتقي بين الإعدام بالرصاص أو شنقاً. فالهويّات المعروضة بين ظهرانينا عندما أصبحت في محل التطبيق الإنساني لها وبين أيدينا تحوّلت إلى حرائق من الصعب إطفاؤها.