سوريا.. الإنتاج وحده يُنعش الاقتصاد

من دون جرأة حلول تُنعش الإنتاج في سوريا، ستعود آلية رفع الأسعار تُطل برأسها مجدَّداً، عبر مقولات مكرَّرة عن إيصال الدعم إلى مستحقّيه، على الرغم مما يحمله أيّ رفع للأسعار من مخاطر على الأمن الاجتماعي للسوريين.

  • سوريا.. الانتاج وحده ينعش الاقتصاد
    قد يكون رفع الدعم أسهل الحلول، لكنه الأكثر مرارة وخطورة

قبل أسابيع قليلة، وضمن مهمة تصوير تقرير تلفزيوني عن تراجع محصول القمح، طلب منّا مسؤول الجمعية الفلاّحية في إحدى قرى ريف دمشق مُحرَجاً الانتظارَ قليلاً. قال معتذراً إن نقص المازوت سيؤخّر العمل قليلاً! التأخير اضطراريّ وبسيط على الرغم من التنسيق المسبّق والموافقات الكاملة للتصوير، والأهم على الرغم من وجود اهتمام حكومي ورسمي عالي المستوى بإنجاح موسم قمح مغاير يقلّل فاتورة الاستيراد، ويوفّر القَطع الأجنبي، وهو ما لم ينجح نتيجة أسباب متعدّدة، أبرزها: نقص المازوت في عملية الزراعة، وحتى الحصاد.

نقص المشتقّات النفطية ليس جديداً في سوريا. الأزمة تتكرّر منذ سنوات، وصورها واضحة للغاية. عشرات آلاف العائلات لم تحصل العام الماضي على مخصَّصاتها من مازوت التدفئة، وأخرى حصلت على كميات قليلة للغاية بين 100 إلى 200 ليتر طوال عام كامل. وطوابير البنزين شكّلت أحد أبرز مشاهد المعاناة خلال العامين الماضيين، والظلمة الدامسة في كبرى المدن، كما أريافها، جرّاء نقص الغاز والفيول لتوليد الكهرباء وانتظار رسالة الغاز المنزلي.. كلها تعكس أزمة اقتصادية قاسية فرضتها تداعيات الحرب، وخروج حقول الإنتاج الكبرى ("العمر" و"كونيكيو" في ريف دير الزور الشرقي، و"الرميلان" في الحسكة) عن السيطرة منذ أعوام.

واقع لم تنكره الحكومة، لكنها لم تجد طريقاً لمواجهته من دون رفع سعر المازوت والخبز، تحت عنوان "الحد من الفارق الكبير بين تكلفة ليتر المازوت وربطة الخبز على الدولة وبين سعر مبيعها للمواطنين". تقول مصادر حكومية إن الدولة تتكبّد 1960 ليرة تكلفة ليتر المازوت، وتبيعه بـ180 ليرة، بعجز يصل إلى 1700 ليرة لليتر الواحد، هي قيمة الدعم. وتصل تلك القيمة إلى مئات مليارات الليرات شهرياً، استناداً إلى أن كمية المازوت التي تضخّها الحكومة تصل إلى 5 ملايين ليتر يومياً. ولا يختلف الأمر كثيراً بالنسبة إلى الخبز الذي لطالما رفعت الحكومات السورية شعاراً مفاده أنه "خط أحمر"، ولا يجوز الاقتراب منه. وتقدّر المعلومات الرسمية تكلفة إنتاج ربطة الخبز بأكثر من 1065 ليرة، بينما تُباع بـ100 ليرة، أي أن قيمة الدعم تقدَّر بنحو 965 ليرة. وقيمة الدعم الإجمالية للخبز تصل إلى 1300 مليار ليرة، وكانت مقدَّرة في موازنة العام الحالي بـ700 مليار. 

قد يكون رفع السعر أسهل الحلول، لكنه الأكثر مرارة وخطورة بالتأكيد، وخصوصاً في مجتمع شكّل الدعم جزءاً أساسياً من معيشته على مدى ستة عقود. وهكذا، تم رفع سعر ليتر المازوت من 180 ليرة إلى 500 ليرة، بنسبة تفوق 170%. ورُفع سعر ربطة الخبز من 100 ليرة إلى 200 ليرة، بنسبة 100%. وعلى الرغم من قساوتها على السوريين، الذين دخل أكثر من 90% منهم تحت خط الفقر بحسب تقديرات أممية، إلا أن تلك الزيادات الضخمة لا تعني إلغاءً كاملاً للدعم، بل على العكس من ذلك، فإن الأرقام التي نشرتها صحف ومواقع إلكترونية سورية، نقلاً عن مصادر رسمية، تتحدث عن أرقام ضخمة لا تزال تتحمّلها الخزينة العامة جرّاء دعم المازوت والخبز ومواد أخرى كثيرة.

بالأرقام، تبدو تلك المعطيات مقنعة إلى درجة كبيرة، لسد فجوة هائلة تتكبّدها الخزينة السورية المنهَكة جراء الحرب وتدهور الإنتاج، في كل مناحيه الزراعة والصناعة والنفطية. لكن الأسئلة كثيرة وملحّة عن كيفية معالجة الضائقة المعيشية للسواد الأعظم من السوريين، على الرغم من إقرار زيادتين بنسبة 50% بالنسبة إلى رواتب العاملين والعسكريين، و40% بالنسبة إلى رواتب المتقاعدين. وهي زيادات ضئيلة للغاية، استناداً إلى أن معدل الرواتب الحكومية لا يتجاوز 70 ألف ليرة، أي ما يعادل نحو 22 دولاراً. ويظهر عدم فعالية هذه الزيادة المطروحة في ظل التهام الارتفاع المباشِر لتعرفة النقل، وكل ما يرتبط بالمازوت في الإنتاج.

نظرياً، ليست مجالات التحرك سهلة في ظل ظرف موضوعي يرتبط بـ10 سنين من الحرب والحصار وغيرهما. لكنّ  الاتكاء على هذه المبررات، في المقابل، يعني ببساطة استمرار قضم عوامل الأمان الذي يعيشه ملايين السوريين، اجتماعياً واقتصادياً، وخصوصاً أنهم دخلوا مرحلة الفقر فعلياً، وليس وفق أرقام مراكز الأبحاث والمؤسسات الاقتصادية الدولية. ثمة هامش واسع للتحرك المباشِر يبدأ بتشجيع قطاعات إنتاجية تقليدية، طالما ميّزت الاقتصاد السوري، على النهوض. وهذه أولوية على كل ما عداها. هناك مساحات زراعية كبيرة، وعشرات آلاف الورشات الحرفية، ومثلها من المصانع، لم تنتج حتى اليوم، أو في أحسن الأحوال بدأت بطاقات هزيلة جرّاءَ تعقيدات وتشابكات، بعضها يتّصل بالتراخيص والموافقات والفساد على مستوى دوائر محلية، وصولاً إلى نقل البضائع والمنتوجات إلى الأسواق.

التحرّك الآخر ينطلق من ضرب الفساد كمدخل لا بدّ منه لتوفير بيئة إنتاج ملائمة. لم تعد مجديةً دعوةُ المنتجِين، وخصوصاً من غادروا خلال سنوات الحرب وبنوا مشاريعهم في مصر والأردن وتركيا، إلى البدء بمشاريعهم في ظل فساد تضخَّمَ خلال سنوات الحرب. ومواجهة ذلك ليست صعبة في ظل مناخ شعبي داعم بقوة لمواجهة الفاسدين وسارقي المال العام. وبرز لافتاً، قبل أسابيع فقط، حجمُ التفاعل مع الكشف عن مداهمة 40 مستودعاً لتجّار ورجال أعمال، تحتوي على بضائع مهربة، تزيد قيمتها على 60 مليار ليرة، وغراماتها 242 ملياراً. خطوة جرى التركيز الإعلامي عليها، في رسالة تدلّ على جدية الدولة في ضرب الفساد، مع ما يعنيه ذلك من خطوة تمهيدية لدعم المنتجِين والمستثمرين في القطاعات المنتِجة.

من دون جرأة حلول تُنعش الإنتاج في سوريا، ستعود آلية رفع الأسعار تُطل برأسها مجدَّداً، وتضغط بصورة خاصة على حوامل الطاقة وأساسيات المعيشة، عبر مقولات مكرَّرة عن إيصال الدعم إلى مستحقّيه، والتخفيف عن الخزينة، على الرغم مما يحمله أيّ رفع للأسعار من مخاطر على الأمن الاجتماعي للسوريين.