هكذا شاهدتُ العمليَّة الانتخابيّة في إيران
في السيادة الشعبية الدينية، وفق النسق الإيراني، تنصّ التشريعات على أن محورية الإنسان وأهمية حريته وكرامته لا بد منها، بالتناسق مع القيم الإيمانية للشعب وأحكام الإسلام.
تجري العمليات الانتخابية والتنافس الديمقراطي في الجمهورية الإسلامية وسط محيط ودول لا تفرّق أنظمة القبيلة في بعضها بين صندوق الفاكهة وصندوق الانتخاب، كما عبَّر المرشد الإيراني السيد علي خامنئي، وتمارس ضد شعوبها، ولا سيما في منطقة الخليج، تهميشاً تاماً لأي إرادة شعبية. وقد قدِّرَ لي في هذه الانتخابات الَّتي أوصلت إبراهيم رئيسي إلى سدة الرئاسة، أن أكون شاهد عيان كصحافي عربي يقيم في إيران، وأحبّ أن أقدّم شهادتي وبعض التحليل في هذه المقالة للشباب العربي.
ساهم نهج إدارة الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب وتعامله مع الملفات الإيرانيّة في تأكيد المواقف التي لطالما أوضحت أنَّ الأميركي المستكبر لا يعطي الحق لأصحابه من دون إبراز عناصر القوة والتحدي في وجهه. لهذا، أفشلت الإجراءات الأميركية حكومة الرئيس الإيراني حسن روحاني، وضاعفت إخفاقاتها على الصعيد الاقتصادي، وكبر حجم التجرؤ الأميركي والإسرائيلي على استهداف الداخل الإيراني.
وهنا، ارتفعت أسهم التيار الأصولي أو المبدئي، وإن كان رئيسي من خطّ ثالث في إيران، يتَّسم بالوسطية والاعتدال الداخلي والتشدّد في التعامل الخارجي، صيانة لحقّ إيران الطبيعي في بناء قدراتها على الصعد كافة، من دون إذن من أحد، وهو الخط الذي تجلّى تمثيله في شخصيّة الشهيد قاسم سليماني.
التّصويت للنّهج لا للأشخاص
هذه المرة، صوَّت الإيرانيون للنهج لا للأشخاص، ولمستوى الأداء في مواجهة التهديدات والعقوبات، واختاروا الحد الأعلى بين خطابات التحدي والمواجهة باختيارهم رئيسي؛ صاحب البرنامج الأوضح في مواجهة الضغوط والعقوبات والاعتداءات.
ويبدو بالفعل أنَّ على خصوم إيران انتظار مفاجآت حكومة رئيسي، والمزيد من التجذير والتنمية للاقتصاد المقاوم على حساب منظومة "الولي السفيه" في الغرب، أي النظام الرأسمالي الجشع والنظام الماليّ الأميركيّ البغيض، أو على صعيد دعم جبهة المقاومة في المنطقة عموماً، وهو ما لا يتناقض مع التأكيد الدائم أنَّ السياسة الإيرانية الخارجية ثابتة بالمجمل، ويختلف التعبير عنها شدةً وضعفاً من حكومة إلى أخرى.
أبعاد شخصيّة رئيسي
تحتاج إيران على الصعيد الداخلي إلى تغييرات جوهرية لمعالجة الصعوبات المعيشية وهموم الناس. ويبدو أنَّ رئيسي هو رجل المرحلة والشخصية المؤهلة لهذا الدور، فهو الفقير الذي فقد أباه في الخامسة من عمره، ولم تكن عائلته تتمكن من شراء كيلو كامل من اللحم دفعة واحدة، كما ينقل العارفون بحاله.
تنطبق عليه مقولة أن الفقر يمكن أن يجعلك حزيناً، ولكنه يصنع من الاستثنائيين حكماء ومصلحين، فقد صمد في وجه اليتم والبؤس، واستطاع أن يمخر عباب المعاناة بزورق العلم، كما يقال، وينال أعلى شهادة في الحوزة العلمية.
رئيسي هو تلميذ المرحوم آية الله المرعشي النجفي، الذي لم يورّث درهماً ولا ديناراً، بل ورّث الإنسانية أكبر مكتبة في إيران، والثالثة عالمياً، وأكبر مكتبة شخصيّة في العالم. إضافةً إلى ذلك، جمع بين نمطي الدراسة الحوزوية والأكاديمية، فنال درجة الماجستير في الحقوق الدولية.
هل الديمقراطية محصورة بالنماذج الغربية؟
بعض المفتونين ببهرجة الديمقراطيات الغربية من أبناء جلدتنا، ينطلقون من فهم فوكاياما للحكم والديمقراطية، ويغضّون الطرف عن خصوصيات الشعوب وإيمانها، وهم يريدون إجبارنا على الاعتقاد بأنَّ الديمقراطية الليبرالية الغربية هي المرحلة الأخيرة من التطور الاجتماعي والثقافي للبشرية. وهنا، يجيب السيد علي خامنئي عن هذه النقطة بالتحديد، عندما يقول (ما مضمونه) إن حاكمية الشعب وحضور الجماهير الدائم لا يعنيان استيراد النماذج الغربية.
منذ انتصار الثورة الإسلامية بقيادة الإمام الخميني والتصويت الشعبي الجارف على نظام الجمهورية الإسلامية، اعتُمدت في إيران الديمقراطية الدينية المستندة إلى الدعم الجماهيري، ولكن بالخصوصيات الحضارية الإسلامية والإيرانية، وأعتقد أنَّ من حقّ أنصار الثورة الإسلامية الذين قدموا مئات الآلاف من الشهداء في طريق تمكين الشعب الإيراني ضد الاستكبار الطامع، صيانة الاستقلال الإيراني، وخير سبيل لذلك هو تعزيز القيم الإسلامية والثورية كحامل أساسي للثورة، وضامن لرفعة الشعب الإيراني واستقلاله التام. وأحياناً، يغدو حفظ الانتصار أصعب من الانتصار ذاته، كما هو معلوم.
في السيادة الشعبية الدينية، وفق النسق الإيراني، تنصّ التشريعات على أن محورية الإنسان وأهمية حريته وكرامته لا بد منها، بالتناسق مع القيم الإيمانية للشعب وأحكام الإسلام، وفق النظرات الاجتهادية للفقهاء الأحياء المعاصرين الذين يعيشون ظروف الزمان والمكان، من دون الاستناد في كل مرة إلى المقاربات المادية الانتهازية على الطريقة الغربية التي تحقق مصالح أصحاب رؤوس الأموال الذين لا يحلّلون ولا يحرمون، كما نقول في الدارج، في حين تضيّق السيادة الشعبية والقوانين الإسلامية المجال أمام الأساليب الانتهازية والاستغلالية إلى أدنى مستوى، كما يؤكد دوماً مسؤولو النظام ومنظّروه.
والحق يقال إنّ إيران تقع في طليعة بلدان المنطقة، لجهة تكريس السلطة الشعبية، فلا يمر عام من دون انتخابات على كل المستويات، بما فيها انتخاب أعضاء مجلس الخبراء الّذي بيده تنصيب قائد الجمهورية الإسلامية "الولي الفقيه" وعزله. هذه الانتخابات لم تلغَ أو تتوقّف تحت أي ظرف من الظروف، حتى في بواكير التأسيس، وفي زمن الحرب الصدامية على إيران الإسلامية الوليدة، بينما أوقفت في أميركا عدة انتخابات تحت ظروف أخفّ وطأة مما جرى على إيران.
لا وجود للمال السياسي
راقبتُ إدلاء الإيرانيين بأصواتهم في أكثر من مركز اقتراع. لذلك، يمكن أن أستخلص أن لا وجود لتدخل المال السياسي، كما يحدث في معظم البلدان، ومنها الغربية، والذي يؤثر بالفعل في النتيجة النهائية، وفي وصول مرشح دون آخر، وأجزم أن المزاج الشعبي الإيراني لا يمكن أن يسمح بذلك.
شهدت قبل هذه الانتخابات جنازة الشهيد سليماني والجموع المليونية التي شاركت في التشييع، فكان ذلك المشهد نوعاً من الاستفتاء المهيب على شرعية نظام الجمهورية الإسلامية. ومن يشاهد طوابير المقترعين الطويلة في هذه الانتخابات حتى الساعة الثانية فجراً، يدرك أنها خطوة الشعب الأخرى في دعم نظامه في وجه التسلط الدولي.
وأذكر أنني تحدّثت إلى قناة "بي بي سي" قبل أشهر، وقلت يومها إنَّ على الأميركيين المسارعة إلى معالجة أخطاء إدارة ترامب قبل أن يصل إلى السلطة رئيس إيراني شديد عليهم. أعتقد اليوم أن على دول المنطقة أيضاً وحكوماتها وشعوبها أن يقتنصوا لحظة فوز رئيسي وهذا التحول الكبير، بمزيد من تحسين العلاقات ومد الأواصر بين الشعوب الإسلامية، لتعزيز جبهة المقاومة ضد الصهاينة وقطع اليد الأميركية الطامعة بمنطقتنا.