السيد الخامنئي خارج الصور النمطية... قراءة باحث فلسطيني من الداخل

السيد الخامنئي، هو الضامن الأمين لإرث المؤسس لإيران الإسلامية الحديثة الإمام الخميني، والحارس الطويل النفس لنهج مقاومة الهيمنة في العالم.

  • السيد علي الخامنئي.. شخصية علمية موسوعية يتحدث في الفقه كما يتذوق الشعر (أرشيف).
    السيد علي الخامنئي.. شخصية علمية موسوعية يتحدث في الفقه كما يتذوق الشعر (أرشيف).

في ظل نتائج العدوان مؤخراً على إيران ورد إيران ضمن عمليات الوعد الصادق 3 ، برز مجدداً اسم السيد علي الخامنئي كفاعل محوري لا يمكن تجاوزه في المعادلة الإقليمية، وبين المبالغات الإعلامية، والإسقاطات السياسية، والتصنيفات المسبقة، بقيت صورة هذا الرجل عند كثير من العرب ضبابية، وأحياناً مشوهة.

في هذه الشهادة الخاصة لـ"الميادين نت"، يكتب الإعلامي والباحث الفلسطيني عبد الرحمن أبو سنينة، المقيم في إيران، عن شخصية السيد الخامنئي كما فهمها من سنوات إقامته الدراسية والاستقصائية، لا من خلف الشاشات، بل من قلب التجربة اليومية المعاشة.

شهادة تقدم الرجل كظاهرة قيادية، تتطلب قراءة موضوعية تنصف الواقع وتعيد التوازن للفهم العربي الغائب عن كثير من مفاصل هذه التجربة السياسية الفريدة.

في أعقاب العدوان الإسرائيلي الأخير وما أعقبه من استشهاد قادة منظومة القيادة والسيطرة، ثم استعادة التوازن في غضون ساعات بإدارة القيادة العليا في إيران المتمثلة بآية الله خامنئي، والرد الإيراني غير المسبوق الذي دوى للمرة الأولى في عمق الكيان، عاد اسم الرجل ليتصدر النقاش العربي والدولي، بوصفه قائداً وصانع قرار ومحور ثقل في معادلة صراع باتت تتجاوز الإقليم.

من هنا، لم يعد الحديث عن السيد الخامنئي ترفاً تحليلياً أو رصداً إخبارياً، بل أصبح ضرورة لفهم لحظة مفصلية تتشكل أمامنا، تحتاج إلى قراءة ناضجة، تتجاوز الصور النمطية والانطباعات المتعجلة.

أقدم السيد الخامنئي بملاحظتي التي أظنها الأكثر أهمية، نحن أمام شخصية قيادية نادرة جمعت بين الزهد والتخلق من جهة، والصلابة والحكمة من جهة أخرى، هذا التوازن بين الروحي والسياسي، بين العالِم الرباني ورجل الدولة، هو ما يجعل حضوره مختلفاً عن القادة المعاصرين.

صحيح أن مظهره يوحي بالتقشف والبساطة، وأن بيته المتواضع يخلو من المظاهر التي تحيط بكثير من زعماء العالم، لكنه لا يكتفي بالزهد، فالسيد الخامنئي ليس مجرد رمز ديني، بل هو رجل دولة يدير ملفات معقدة في بيئة إقليمية ودولية خطرة إلى أبعد مدى.

شخصية علمية موسوعية يتحدث في الفقه كما يتذوق الشعر، يحفظ ويستشهد بالقصائد العربية والفارسية، يتتبع تطورات الساحة السياسية كما يتدبر نصوص القرآن ونهج البلاغة وكتب الفقه والفلسفة، ويتخذ قراراته لا بردة الفعل، بل بعد قراءة متأنية وعميقة.

ربما يُصدم القارئ إذا علم أن صلاحيات السيد الخامنئي، في السياق الدستوري الإيراني، لا تبلغ ما تملكه الملكة (أو الملك) في النظام الملكي البريطاني من سلطات رمزية، ففي بريطانيا، لا تزال الملكة قادرة على حل البرلمان، أو المصادقة على تعيين أو إقالة رئيس الوزراء، أما في إيران، فالقائد الأعلى يخضع لرقابة مجلس الخبراء وهذا المجلس منتخب دورياً من الشعب، ولا يمارس القائد سلطته التنفيذية مباشرة، بل من خلال أدوات محددة.

الحاكم الإسلامي وفق نظرية ولاية الفقيه ليس متسلطاً، بل (هو مكلَّف مشروط) تتقيد ولايته بالكفاءة والعدالة والقبول الشعبي، والشجاعة، والولاية وظيفة شرعية تكميلية، وليست سلطة مطلقة باسم السماء.

في الفكر السياسي، كما رسمه الإمام الخميني المؤسس، وطوّره فقهاء الثورة الإسلامية من بعده، الولي الفقيه ليس نائباً عن الله على الأرض، ولا حاكماً فوق القانون كما يقول باحثون وبعضهم ممن ينتمي للتشيع ويقول ذلك ويدعوني للتعجب فعلاً، بل هذا الولي "مرجعية ضامنة" لمسار الدولة، قد يتدخل حين تنحرف السلطة المنتخبة عن الدستور، ويدعم بكل إمكاناته حين تسير الأمور في إطارها الصحيح.

السيد الخامنئي التزم بهذا الدور بعناية، في أكثر المراحل تعقيداً – من الحروب إلى الحراكات الداخلية إلى الاتفاقات النووية – كان صوته يظهر ليرسم خطوط التوازن الكبرى، يحرص على ألا يصادر إرادة الناس، وألا يقحم نفسه في تفاصيل الشأن التنفيذي، ما لم يكن هناك تهديد جوهري للثوابت.

ولأن معظم الشعوب العربية لم تتعرف إلى شخصية السيد علي الخامنئي إلا من خلال روايات خصوم إيران، أو عبر السرديات الوهابية والإعلام العربي الهجين، الذي تشارك في تملكه وصياغته إمبراطوريات إعلامية غربية منحازة للصهيونية، وجدت أن من واجبي أن أقدم هذه الشهادة، كما درستها وعشتها عن قرب.

نعم، الجمهورية الإسلامية بقيادة السيد الخامنئي ليست معصومة من التناقضات، ولها تحدياتها، وأخطاؤها، كأي تجربة إنسانية كبرى، ولكن اختزال كل ذلك في شخص القائد، أو تحويله إلى (عدو رمزي) بسبب خلاف سياسي أو مذهبي، لا يخدم الحقيقة ولا البحث العلمي.

أعتقد أننا أمام شخصية تشبه قادة العصور الاستثنائيين، رجل بين الفكر والميدان، بين الزهد والسلطة، بين التأمل والقرار، ولا شك في أن مثل هذه الشخصية تستحق قراءة أعمق، لا تنطلق من العاطفة ولا من التبعية، بل من التجرد، والبحث، والعدل.

السيد الخامنئي، كما عرفته، هو الضامن الأمين لإرث المؤسس لإيران الإسلامية الحديثة الإمام الخميني، والحارس الطويل النفس لنهج مقاومة الهيمنة، وهو منذ أن كان رئيساً للجمهورية حتى اليوم، يوازن بين الدبلوماسية والميدان، وبين الثبات والمرونة، في سبيل الأهداف الكبرى.