هبّة القدس والعدوان على غزة
النصر سيكون حليف من لديه النَّفَس الأطول، والإرادة الأصلب. وهو، بلا شكّ، سيكون حليف المقاومة وشعبها.
ما تشهده الأراضي الفلسطينية من عدوان إسرائيلي مستمر، هو دليل على أنه لا يمكن التعايش، أو التفاهم، مع هذا العدو المتغطرس، والذي لا يحترم المواثيق الدولية، ولا المعاهدات، ويمارس سياسات تدنيس الأماكن المقدَّسة في القدس المحتلة، والضفة الغربية، وسياسة التهجير، والاقتلاع، وهدم البيوت، وسلب الأراضي من أجل إقامة المستعمرات الصهيونية وتوسعتها، وقتل كل إنسان فلسطيني يُشَكّ في أمره واعتقاله، من دون وجود أيّ مبرِّر، وذلك كله بدعم وإسناد من الإمبريالية الاميركية.
ويأتي هذا العدوان على غزة الصامدة كمَخرج من المأزق السياسي لنتنياهو، وحزبه، ومحاولة لتصدُّره الواجهة، وتشكيل الحكومة، وإرضاء لغَلاّت المستوطنين، والأحزاب اليمينية المتطرفة، بعد أن لطّخ يديه بدماء الأطفال الأبرياء من أبناء شعبنا الفلسطيني، والذين يستشهدون في كل ساعة تحت قصف طائراته، وبقذائف دباباته، وتُهدَم البيوت فوق رؤوس أصحابها.
ولم تقف الأمور عند هذا الحد، فلقد أفشل أهل بيت المقدس، نتيجة لردهم المزلزل، كلَّ سياسات منع المصلّين من الوصول إلى الأقصى. وهدف المقدسيين منع المستوطنين من تدنيس حرمة الأقصى، ومن محاولتهم مصادرةَ حيّ الشيخ جراح وطرد سكانه، وإعطاءَه لقطعان المستوطنين.
ونتيجة لتلك الظروف، قامت هبّة الأقصى لتقلب السحر على الساحر، ولتوحّد الكلَّ الفلسطيني، سواءٌ في الضفة الغربية، أو الداخل الفلسطيني، أو قطاع غزة، ولتُبطل كل محاولات تحييد فلسطينيي الـ 48، بعد 73 عاماً من الاحتلال، والضمّ، وليُعلنوا أنهم فلسطينيون حتى النخاع، وأنهم يرفضون سياسة التمييز العنصري الممارَسة ضدهم، ولتَخلُوَ مدينة اللُّد من المستوطنين، والشرطة، وتصبحَ تحت قبضة اللُّداويين الثائرين.
حرَّك فلسطينيو الـ 48 الحافلات لدعم أهل القدس المحتلة وحيّ الشيخ جراح، وحاولت الشرطة الإسرائيلية منعهم، فقاموا بتَرك الحافلات، والمشي على الأقدام نحو القدس، فما كان من أهل القدس إلاّ أن حرّكوا سياراتهم الشخصية من أجل نقل أبناء شعبنا من فلسطينيّي الـ 48، ومن المتضامنين، إلى مدينة القدس، في صورة أرعبت المحتل، وأجبرته على فتح الطريق، والسماح للحافلات التي تُقِلّ المتضامنين بالمرور نحو القدس.
إنّ ما جرى يؤكد أن الشعب الفلسطيني حيٌّ، وخلاّق في كل أماكن وجوده، وإنَّه اخترع طرائق ووسائل جديدة للنضال. فبالإضافة إلى الكفاح المسلَّح، والحَجَر، والمفرقعات، والسلاح الأبيض، والطائرات الورقية الحارقة، أصبح الكرسيّ، وإغلاق الشوارع الرئيسة بالسيارات، شكلاً جديداً للنضال، الأمر الذي أفقد العدو صوابه، وجعله يتخبَّط في ردات فعله، غيرَ واعٍ لتصرفاته، ولحجم الرد الفلسطيني القوي على تهوره، وممارساته العنصرية، وليؤكد له بالمطلق أن القدس والأقصى خطٌّ أحمر لا يمكن تجاوزه.
ولتعزيز هذه الهبّة الجماهيرية جاء رد المقاومة من غزة بعد أن أطلقت رشقات من الصواريخ المحلية الصنع على القدس المحتلة، والمستعمرات المحيطة بغلاف غزة، ولتصل إلى "تل ابيب"، وحيفا، والناصرة، و"ديمونا"، متجاوزة "القبّة الحديدية"، ومُوْقِعة فيها خسائرَ مادية جسيمة، وعدداً من القتلى، والإصابات، ولتصبح كلُّ أراضي فلسطين المحتلة منذ عام 48 تحت ضربات صواريخ المقاومة، ولتعلن له، على الرغم من الخسائر الجسيمة، والعدد الكبير من الشهداء، والمصابين، أن الحقَّ لا بد من أن يعود إلى أصحابه ولو بعد حين. فبالنسبة إلى الفلسطينيّ، ليس هناك ما يخسره بعد طول سنوات المعاناة من الاحتلال، والتهجير، والقتل، والاقتلاع، وبعد أن لحق الظلم به منذ ما يزيد على قرن.
لقد كان لهذه الهبّة، ولهذا العدوان، الصدى الواسع في كل دول العالم، والفضلُ في إعادة القضية الفلسطينية إلى الصدارة مرة أخرى، بحيث خرجت المسيرات الجماهيرية في كل مدن الضفة الغربية، وفي أميركا، وأوروبا، والأردن الشقيق، وسوريا، ولبنان، وسواها من بلدان، والتي تؤكد، بما لا يدع مجالاً للشكّ، أنه آنَ الأوان لإعطاء الشعب الفلسطيني حقوقه التاريخية، وإقامة دولته المستقلة على ترابه الوطني وعاصمتها القدس الشريف.
ويأتي هذا العدوان مترافقاً مع حلول الذكرى السابعة والثلاثين لنكبة الشعب الفلسطيني، والتي كانت سبباً في هجرته، ووقوع الظلم عليه. لكنْ، على ما يبدو، فإن ما قبل تاريخ 9 أيار/مايو 2021 ليس مثل ما بعده، وإن صبر الشعب الفلسطيني نَفَدَ، ولن يعود إلى الوراء، وإن الدولة الفلسطينية لا بدّ من أن تقوم ، وأن يعود الحق إلى أصحابه الشرعيين، شاء مَن شاء وأبى مَن أبى، وأن تعود "م.ت.ف" إلى دورها الطبيعي، ممثلاً شرعيّاً وحيداً للشعب الفلسطيني، وأن تتخذ الحكومة، والسلطة الفلسطينية، قرار إلغاء اتفاقية "أوسلو"، وما نتج منها، وأن تُنهِيا التنسيق الأمني بلا رجعة، لأن الكل الفلسطيني أصبح مستهدَفاً، ولا بدَّ من إنهاء ملف المصالحة ابعد أن عملت هبَّة القدس، والشيخ جراح، بالإضافة إلى صواريخ المقاومة، على توحيد كل الشعب في كل أماكن وجوده قبل أن تتخذ السلطة أي قرار في ذلك.
في النهاية، فإن النصر سيكون حليف من لديه النَّفَس الأطول، والإرادة الأصلب. وهو، بلا شكّ، سيكون حليف المقاومة وشعبها.