المدرسة والمشاعر العامة المتحركة في الجزيرة وما وراء الفرات

الغزو الخارجي والاحتلال وتوقف التنمية الوطنية في الجزيرة والفرات فاقما مصادر القلق أمام السكان خلال عقد من زمن، وخصوصاً تجاه مستقبل أبنائهم.

  • حجم ما تم تقديمه من أبحاث اجتماعية عن منطقة الجزيرة والفرات قبل الحرب يبدو قليلاً جداً
    حجم ما تم تقديمه من أبحاث اجتماعية عن منطقة الجزيرة والفرات قبل الحرب يبدو قليلاً جداً

حتى وقت قريب، لم تتساوَ المدرسة في أهميتها مع زراعة القمح والقطن في إقليم الجزيرة والفرات النفيس بتاريخه وتنوع مصادره الطبيعية والثقافية. لم يكن السبب أن الثقافة الشفوية هي ثقافة الأغلبية، أو أن الناس في تلك المنطقة لا يحبون التعلم، بل لأن الأرض كانت، وما تزال، المعيار والمحرك في بناء الحياة الاقتصادية والاجتماعية منذ عقود. 

ليس غريباً، على سبيل المثال، ضمن تلك البيئة الاجتماعية، أن ترى معلماً أو مربياً يعمل في مدرسة ابتدائية أو ثانوية قادماً على جراره الزراعي ليتابع تدريبه المستمر في العلوم التربوية أو يجري امتحاناً في أحد مجالات تلك العلوم. ولهذا معانٍ عديدة، فمن جهة، إن وقت الأرض ثمين، وعليه مع انتهاء ذلك التدريب أو التقييم العودة إليها والالتحاق بأسرته. ومن جهة ثانية، لا يجوز للنجاح الأكاديمي أن يتعارض مع الوقت المخصص للأرض. إنها إحدى السمات التي تميز المجتمع في تلك المنطقة، ولكنها بالتأكيد ليست أبرزها. 

في الواقع، إن حجم ما تم تقديمه من أبحاث اجتماعية عن منطقة الجزيرة والفرات قبل الحرب يبدو قليلاً جداً. السبب الأهم أن المتخصصين في علم اجتماع المنطقة قلة، ويمكن عدهم على أصابع اليد، إذ يكاد يكون ثمة باحث واحد لكل 60 كم2. فضلاً عن ذلك، يمكننا أن نلاحظ أن الأبحاث الاجتماعية لم تواكب التحولات التي عرفتها المنطقة مع بداية القرن الواحد والعشرين. 

دعوني أذكر لكم، على سبيل المثال، أن مدارس الجزيرة كانت تستقبل سنوياً مئات التلاميذ والطلاب الأتراك في دورات قصيرة للتعارف وتعلم اللغة العربية. مثال آخر هو مقام الصحابي الجليل أويس القرني في الرقة، والذي كان منصة حية للتلاقي الثقافي والروحي بين أهل المنطقة وآلاف الزوار القادمين سنوياً من الخليج وإيران وباكستان وأفغانستان وتركيا. المؤسف هو عدم وجود دراسة اجتماعية واحدة توثق تلك الأنشطة وتحلل أبعادها والظواهر المهمة التي تضمنتها. لسنا في صدد إعادة كتابة التاريخ الاجتماعي للمنطقة، ولكننا نريد الإشارة إلى أن الحياة في تلك الجغرافيا لم تكن خاملة ومهمشة، كما يحاول بعض العابرين تصويرها بما يناسب مصالحهم ومصالح مشغليهم.

إن الغزو الخارجي والاحتلال وتوقف التنمية الوطنية في الجزيرة والفرات فاقما مصادر القلق أمام السكان خلال عقد من زمن، وخصوصاً تجاه مستقبل أبنائهم، وغيرا الكثير من عاداتهم واهتماماتهم تجاه الأرض والمدرسة. في الواقع، هناك حقيقتان اليوم تدفعان سكان المنطقة نحو نوع من العصبية، وتفسران في الوقت نفسه سبب حالة الإقدام والإحجام التي يعبر عنها قسم تجاه الدولة السورية ومؤسساتها.

 الحقيقة الأولى تتمثل بوجود الولايات المتحدة وتركيا كقوتين محتلتين في منطقة دمشق. هاتان القوتان اللتان داستا عتبة الجزيرة والفرات من دون دعوة، ما زالتا ترسلان بسلوكياتهما الخبيثة إشارات تدل حتى اليوم على أنهما غير مستعدتين لخسارة قواعدهما غير الشرعية. وبالتالي، تساهمان في تشكيل مجال سياسي واجتماعي معقد يتداخل مع المواقف الإيديولوجية الموجودة أصلاً بين أبناء المنطقة. 

الحقيقة الثانية يجسدها نهج الإدارة الذاتية المدعومة بمليشيات "قسد"، إذ إن هذه الإدارة تساهم في عملية إعادة الإنتاج الاجتماعي، من خلال التركيز على الطبقات الريفية والشعبية في تكريس عسكرة المجتمع، وعلى الطبقة الوسطى في تشكيل المؤسسات المدنية، وعلى بعض ما يسمى بالنخب في بلورة مؤسسات سياسية تمثيلية، وخصوصاً خارج سوريا، وكذلك عبر الوراثة التعليمية والاقتصادية. بعبارة أخرى، نقل ما تبقى من مؤسسات تعليمية وثروات إلى ملكيتها واستغلالها وفق معاييرها وشروطها. 

من الواضح أن هذا السياق خلق واقعاً مناسباً لفرض هندسة اجتماعية جديدة على السكان في الدرجة الأولى باستخدام المدارس والمنصات الإعلامية، ففي حين تركز الدولة السورية على سردية المضي قدماً في الحرب ضد عوامل التشدد والتطرف، والتركيز على الدبلوماسية والحوار مع جميع المكونات، وإضفاء الهوية وطابع الوطنية الجامعة على قطاع التعليم والصحة والخدمات، والتصدي لمحاولات الهيمنة التي تتعرض لها المنطقة، يمكننا أن نلاحظ أن الدعاية والإجراءات التي تنفذها الإدارة الذاتية المنضوية تحت الاحتلال الأميركي تساهم في خلق حقائق وانتماءات أخرى (مثل: حقول النفط والموارد المائية ملك لأبناء المنطقة، ومن حق الإثنيات بناء مدارسها وتلقي التعليم باللغة الأم بعيداً من أي معايير وطنية جامعة، وإدارة المناطق يجب أن تكون ذاتية صرفة في يد أبناء المنطقة...). 

ومن المثير للاهتمام ملاحظة اتجاهات مماثلة من قبل النموذج المنضوي تحت الاحتلال التركي، بفرض خطاب ودعاية معادية لأبناء تلك المنطقة. على سبيل المثال، إن الإدارة الذاتية الانفصالية وميلشياتها، أي قوات سوريا الديمقراطية، لا تختلف عن إرهابيي تنظيم "داعش". 

في الوقت نفسه، لا ينبغي لأحد أن ينسى أن خطط إدارة بإيدن، كما تظهر التقارير والتحليلات، لا توحي بتحولات جوهرية في نهجها العدائي الراسخ تجاه الدولة السورية، وخصوصاً في تلك المنطقة. في اعتقادي، هذه الإدارة التي تعرف جيداً من أين يحصل الشعب السوري على نفطه وقمحه، ستكافح بنشاط من أجل إضعاف مركزية الدولة السورية وتشجيع سرقة خيراتها وثرواتها وتراثها المادي، من خلال الحفاظ على الوضع الأمني والاقتصادي والتعليمي القائم، وخصوصاً في البادية والجزيرة والفرات، ولمصلحة جهات يعرفها السوريون والسوريات جيداً. 

في النهاية، هناك شلل في عملية التواصل الاجتماعية وفجوة لا تتوقف عن الاتساع بين أبناء الجزيرة وما وراء الفرات وبين الوطن. ويمكننا القول إن تلك الفجوة أصبحت أخلاقية بأبعاد سياسية واقتصادية وإدارية، وتحتاج في المقام الأول، في ظل وجود الاحتلال التركي والأميركي والتجاذب الإيديولوجي والإقبال والإحجام تجاه مؤسسات الدولة، إلى أن تبادر الحكومة السورية بقوة أكبر إلى خلق وتفعيل أدوات وآليات تواصل منتجة مع أبناء تلك المناطق، بما يسمح بإعادة صياغة المقاربات الوافدة والطارئة التي خلقها الغزو والاحتلال وتدمير رأس المال الاقتصادي والاجتماعي، ومساعدة السكان في المدن والأرياف على التضامن والاندماج بشكل أكثر عمقاً في ما تبقى للدولة السورية من مؤسسات، لأن ذلك سيكون ذا أهمية حاسمة للمستقبل. 

في المجالين التربوي والتعليمي، يجب أن لا ننسى الدور الكبير للمدرسة في عملية إعادة الإنتاج الاجتماعي وردم الفجوات في قضايا الانتماء والفقر والجهل. ومن الضروري أن لا ترفع الحكومة السورية الراية البيضاء في وجه استخدام الإدارة الذاتية وتركيا للمدارس في حياكة هندسة اجتماعية تعزز الانفصال عن الدولة.

 لذلك، في هذا الإطار الدقيق، يجب إصلاح العلاقة مع من كان لهم مهام تربوية وتعليمية في تلك المنطقة، وتعزيز دور جامعة الفرات وما تبقى للدولة من مدارس ومعاهد تديرها وتشرف عليها. وقبل كل شيء، من الضروري أن تستخدم وزارة التربية والتعليم السورية إمكانياتها التقنية في تنمية استراتيجية للتعليم والتثقيف عن بعد، يكون عمادها إطلاق منصات تربوية افتراضية موجهة تساعد التلاميذ والطلاب، وتسمح لهم بالمشاركة مع بقية أبناء الوطن، وأن نذهب أكثر بالتركيز على بث الفيديوهات التعليمية القصيرة الغنية التي تعكس وتلخص مناهج التعليم الوطنية في تلك المنصات. إن مقاطع الفيديو التي لا تتعدى مدتها دقيقتين أو عشرين ثانية، لا تحتاج إلى تقنيات معقدة، ويستطيع التلاميذ والطلبة مشاهدتها من خلالها هواتفهم وهواتف ذويهم.