السياسة الأميركيّة بين الثابت والمُتغيّر

يأتي الملف السعودي بدرجة مُتدنية من الاهتمام الأميركي، رغم التصريحات القاسية تجاه وليّ العهد السعودي الذي أدار سياسة بلاده بِشكل بعيد من الواقعيّة.

  • يبقى الملف الإيراني سيّد الملفات، لكونه مُرتبطاً بِمصير
    يبقى الملف الإيراني سيّد الملفات، لكونه مُرتبطاً بِمصير "إسرائيل" بشكل مباشر

لم تستطع التصريحات الإيجابية لأركان الإدارة الأميركيّة الجديدة الصمود أكثر من أسابيع قليلة أمام التحركات الأميركيّة العدائية على الأرض، وكأنّنا كنّا نحتاج إلى المزيد من البراهين التي تقول إن كلّ البرامج السياسيّة الأميركيّة غير قابلة للتغيير، وإن تغيرت الأساليب والأدوات. لقد بدأ أركان الإدارة الجديدة مرحلتهم بوابل من التصريحات التي كادت تجعلنا نعتقد أن العالم، وخصوصاً في منطقتنا، بات على أبواب انفراجات في أزمات كبيرة تعصف به. 

الآن، وعلى الرغم من قِصر مدّة تولي جو بايدن للحكم، أصبح واضحاً أن الأهداف الأميركيّة ما زالت كما هي، وأن الرئيس الحالي يعمل على تصحيح السياسة الأميركيّة التي انتهجتها إدارة دونالد ترامب، والعودة إلى تنفيذ سياسة الرئيس الأسبق باراك أوباما. ولا شكّ في أنه نجح حتى الآن في ملفات، وفشل في أخرى، مع بقاء الكثير من الملفات قيد العمل.

لنبدأ بالملفات الناجحة التي يُعتبر أهمّها ملف العلاقة الأميركيّة الأوروبيّة، إذ رأينا تحوّلاً سريعاً في مواقف تلك الدول مع عدد من القضايا وعودتها إلى مواقفها الأساسيّة قبل مجيء ترامب إلى السلطة. 

لذلك، أصبحنا نسمع عن تشدّد الدول الأوروبيّة في مواقفها من روسيا، إلى درجة أن المُتحدث باسم الاتحاد الأوروبي قال إن بروكسل تدرس فرض عقوبات عليها، على خلفية انتهاكها لحقوق الإنسان، وذلك بعد اعتقال المُعارض الروسي أليكسي نافالني، كذلك اتهامها بتأجيج الصراع في شرق أوكرانيا، وهو ما دفع وزير الخارجية الروسي إلى أن يرد بالقول إن روسيا ستقطع علاقاتها مع الاتحاد الأوروبي لو حصل ذلك. الأمر نفسه ينسحب على موقف الاتحاد الأوروبي من إيران ومن الاتفاق النووي؛ هذا الموقف الذي بقي ليّناً ومُهادناً تجاه الجمهورية منذ انسحاب الولايات المتحدة منه، والذي نراه بدأ يأخذ طابعاً مُتشدداً.

ثمة ملفٌ آخر نجح بعض الشيء، يتمثل بحرف تركيا عن علاقتها الإيجابيّة مع روسيا، وهو أمر واضح من خلال توتّر العلاقات الروسيّة التركيّة في بعض الأماكن، مثل أوكرانيا، ولكن هذا النجاح المحدود يُقلّل من فاعليته الأسلوب الذي تتعامل به كلّ من روسيا وتركيا مع بعضهما البعض، والتعاون في الكثير من الملفات، كذلك التحوّل التركي الإيجابي في التعامل مع الملف السوري، وذلك لا يعني استسلام تركيا لأحد الطرفين في ملف معين، فهي تُدرك جيداً ثقلها المؤثر في معظم القضايا التي تخصّ كلّاً من روسيا وأميركا، وتُدرك حاجتهما لها. ولذلك، ستواصل التنقّل بين الدولتين بما يُلبي طموحاتها التوسعية.

أمّا الملفات ذات الخلافات الحادّة، فلم يستطع بايدن تحقيق أيّ خرق فيها، فعلى صعيد العلاقات مع روسيا، وعلى الرغم من اتفاق الدولتين على التمديد لمعاهدة "نيو ستارت"، ازداد توتّر العلاقة بينهما، ويبدو أن الأميركي مُستمر بالضغط على روسيا عبر محيطها الحيوي. وفي الوقت نفسه، تمضي الأخيرة في تعزيز تواجدها في منطقة الشرق الأوسط، وذلك من خلال تقوية خيوط التعاون مع الدول الخليجيّة، بدليل الزيارات الأخيرة الناجحة التي قام بها وزير الخارجية الروسي لعدد من دول الخليج، والتصريحات الإيجابيّة التي أعقبتها.

ويبقى الملف الإيراني سيّد الملفات، لكونه مُرتبطاً بِمصير "إسرائيل" بشكل مباشر. وهنا، يُحسب لإيران أنّها لم تُخدع بالوعود الأميركيّة المعسولة التي عرّاها الاعتداء على موقع للمقاومة العراقيّة في الجانب السوري من الحدود العراقيّة السوريّة، ما استدعى ردّاً مُقاوماً على الجناح الأميركي في قاعدة عين الأسد.

ويأتي الملف السعودي بدرجة مُتدنية من الاهتمام الأميركي، رغم التصريحات القاسية تجاه وليّ العهد السعودي الذي أدار سياسة بلاده بِشكل بعيد من الواقعيّة، ما أدّى إلى فشل مملكته في معظم الملفات الموكلة إليها، وخصوصاً في الحربين على كلّ من سوريا واليمن. ولأن هذا الفشل ينسحب على الولايات المتحدة بصفتها القائد الفعلي لكلّ ما يجري، ولو في الظل، وبغية إرضاء إيران، أصبح المطلوب من السعودية حالياً هو المال والطاعة المطلقة والعودة إلى حجمها الطبيعي.

بطبيعة الحال، هذا لا يعني أن الولايات المتّحدة الأميركيّة ستنجح في كلّ ملفاتها أو ستخسرها جميعاً، ولكن الملاحظ، وخصوصاً خلال السنوات الأخيرة، أن الخط البياني للنجاح الأميركي بدأ بالانحدار.

ولعلّ الخسارة المؤثرة، والتي يكابر القادة الأميركيون في الاعتراف بها، هي خسارة المصداقيّة؛ هذه الخسارة الناجمة عن سلوكين أميركيّين، أوّلهما هو تخلي الولايات المتحدة عن حلفائها عند أيّ مُنعطف، ما جعل مُعظم حلفائها الاستراتيجيين يبحثون عن خيوط تربطهم بدول كبرى ذات مصداقيّة، كما يحدث الآن لدول الخليج مع روسيا، والآخر هو عدم التزام الإدارات المُتعاقبة بما يتمّ الاتفاق عليه. ولذلك، نجد أن ما يحدث على الأرض يمحو ما يُكتب على الورق.