مدارس الفرات

عندما نقرأ اليوم ونسمع ونشاهد سلوكيات "قسد" في الجزيرة السورية والفرات، لا يسعنا إلا القول إنَّ وجه الشبه بين المتصهينين والقسديين أصبح واحداً، على اعتبار أنّهم جميعاً يعملون وفق مبدأ "نحن أولاً".

  • قوات سوريا الديمقراطية
    قوات سوريا الديمقراطية

انتزعت قوات "سوريا الديمقراطية" (قسد) التي تضمّ الكرد ومكونات سورية أخرى أجزاء مهمة في شمال وشرق سوريا من الجماعات المتطرفة، وخصوصاً تنظيم "داعش"، لكن عندما نقرأ اليوم ونسمع ونشاهد سلوكيات "قسد" في الجزيرة السورية والفرات، لا يسعنا إلا القول إنَّ وجه الشبه بين المتصهينين والقسديين أصبح واحداً، على اعتبار أنّهم جميعاً يعملون وفق مبدأ "نحن أولاً".

شخصياً، لست مصدوماً بهذه السّلوكيات، لأنني على يقين بأنَّ أعداء الوطن تلاعبوا مادياً ومعنوياً بتشكيل "قسد" وتوجيه قادتها وتحرير خطاباتهم الديماغوجية، كما نفخوا بذكاء في تكوين "داعش" من قبل، والأدلة على ذلك متعددة، حتى إنَّ الدراما الغربية بدأت تسلّط الضوء عليه وتتفاخر به. شاهدوا، على سبيل المثال، سلسلة "No Man's Land" الدرامية التي تشرح جانباً من الطريقة التي زرع فيها الموساد عملاءه في "داعش" و"قسد"، بعلمهم ومن دون علمهم في بعض الأحيان، مستغلاً الحدود المفتوحة لسوريا مع تركيا وشمال العراق. 
حقَّقت الدولة السورية باكراً الأصالة التعليمية عندما فتحت المدارس لجميع أبنائها في كل مدينة وقرية من الجزيرة والفرات، وأعطتهم من دون تمييز ما تؤمن به وتريده من المعارف والقيم، من دون أن تخضع تلك المدارس لأي تمويل وقوانين خارجية.

 وباعتراف المنظمات الدولية العربية والعالمية العاملة في قطاع التربية والتعليم، كانت وزارة التربية السورية سباقة ورائدة في إعداد الكوادر التعليمية وصناعة المناهج وتطويرها، حتى اندلاع ما بات يعرف في الأدبيات السياسية بـ"الربيع العربي"، فتبدل الواقع، وابتلينا سريعاً بمنظمات وكيانات تريد التحكّم بمستقبل جزء من أبنائنا الأبرياء، ولا تحسن إدارة وتصوّر مستقبلهم أو تحرير وإعداد كتاب تعليمي لهم.
القضية الأساسية بالنسبة إلى الدولة السورية في الجزيرة والفرات واضحة، وتتمثل في إخراج المحتل الأميركي والتركي من الأراضي السورية وتثبيت سيادة الدولة، من خلال إعادة المؤسسات إلى العمل والإنتاج بما يضمن صالح المواطنين السوريين جميعاً.

من هنا، نلاحظ أنّ الدبلوماسية التي تقودها الحكومة السورية في اتجاه إيجاد تفاهمات مع "قسد" ضرورية ومنسجمة مع خطتها في إنقاذ المؤسسات ومنشآت البنية التحتية والطاقة التي بنتها بصبر، وعلى وجه الخصوص المؤسسات التعليمية، من رياض الأطفال حتى التعليم العالي، لتصبح منارات ومنصّات مهمة على مستوى الجزيرة والفرات، بمعالجة الآثار السلبية التي خلفها تنظيم "داعش" ومحاصرة ما تبقى له من جيوب وإيديولوجيا.
لكنَّ السلوكيات التي تقوم بها "قسد" ضد المعلمين وتدريس مناهج التعليم الرسمية في الجزيرة، أصبحت مخزية ومحزنة، وتستحق انتقادات غاضبة، من منطلق أنها أصبحت حالة يومية بعد الأطروحة السليمة والموجزة لوزير التربية السوري أمام وسائل الإعلام، والتي كشف خلالها أنَّ هناك إمكانية لتعليم اللغات المحلية الكردية والسريانية والتركمانية والأرمينية ودمجها في المنهج التعليمي الرسمي، بما يتفق ومبدأ المواطنة، ويساهم في صون التنوع اللغوي.

إنَّ سنوات الحرب الطويلة على سوريا والسوريين قوّضت قدرة الكثير من المؤسسات الرسمية على أداء وظائفها وتطوير ممارساتها كما يجب. وفي المجال التعليميّ، ما زالت هذه الحرب تقف عائقاً قوياً أمام عودة مئات الآلاف من التلاميذ والطلاب إلى التعليم المبني على أسس ومعايير وطنية، وتجعل مستقبلهم غامض الملامح ولا أفق له خارج الدولة السورية.

أما انتشار جائحة كورونا وما رافقها من عقوبات وحصار وإجراءات غير شرعية، فقد زاد حالة الارتباك وخلق من جديد عدم مساواة بين المدارس التي تديرها الحكومة السورية، وتلك الخارجة عن سيطرتها في سياق الحرب. 
لحسن الحظّ، إنَّ تأثير الجائحة في المدارس التي تشرف عليها وزارة التربية السّورية تم استيعابه بسرعة أكبر، إذ أبقت الوزارة أبواب هذه المدارس مفتوحة لجميع الطلاب منذ بداية العام الدراسي، وبشكل يستحقّ الإعجاب، في ظل هذه الأزمة الصحية والاقتصادية التي تضرب سوريا، كما تضرب الكثير من دول العالم. أما بالنسبة إلى الكثير من المدارس التابعة لما يُسمى الإدارة الذاتية، فقد تمَّ إغلاقها لفترات أطول وخفض ساعات التدريس فيها، من دون تقديم بدائل فعالة للتلاميذ والطلبة تتعلَّق بالتعليم عن بعد.

أعتقد أنَّ الحرب على سوريا وضعت أمامنا العديد من الإشكاليات في المجال التربوي والتعليمي، من مثل بناء روابط قوية بين التربية الوطنية والثقافات الموجودة عبر المناهج التعليمية، وإعادة تأهيل التدريب التربوي، وإمكانية التوسع بالتعليم الخاص، والابتكار التربوي، وإعادة بناء البحوث التربوية... ولكن قبل معالجة هذه الإشكاليات، ألا يجب أن يكون هناك خروج جامع من الأزمة، وإبعاد تام للمدرسة عن الخصخصة الثقافية وتجاذبات الجغرافيا السياسية؟
لهذا، كل ما يأمله أي مواطن سوري من "قسد" هو إعادة مدارس الفرات إلى حضن الدولة السورية، لأن وجودها تحت إشراف الدولة هو الضمانة الوحيدة لإخراجها من الدائرة المفرغة التي تدور فيها، حيث لا اعتراف دولياً بمناهجها، وشهاداتها غير قانونية في نظر الكثير من أبناء المنطقة نفسها، فهل من أمل؟