الديمقراطية في بعض عناوينها
الديمقراطية أو تجزئتها إلى "ديمو- كراتس"، كما في اليونانية، أو بمعناها الذي اتخذ شكل حكم الشعب شعاراً، أعطت له حقّ سلطة نفسه. بعبارة أخرى، أثبتت سلطة الشعب أن الديمقراطية، رغم قدمها، لم يعمل بها الكثيرون لاحقاً.
لطالما كانت الشّعوب على مرّ التاريخ، بحقباته المتفاوتة، تعاني التهميش والإلغائية التي وصلت إلى حد الاستعباد لأفكار ترجع ربما إلى شخص ما باعتباره الحاكم أو زعيم الدولة أو لخطة استعمار، فنرى الناس منذ القديم يستصرخون وينادون للتحرر حيناً، وللمساواة أحياناً أخرى، إيمانًا منهم بأن المساواة أساس لرفع حالة الاستبداد وظلم الأقلية بشكل من الأشكال عن الشعوب.
لقد نادى كثيرون بالتحرر والمساواة كأساس لبناء مجتمع مستقر ومتساوٍ في مناحي الحياة والحكم على حد سواء، فبعد إقرار استقلالية الفرد، وضمان أن يكون سلوكه في الحياة خاضعاً لاختياره، رفضاً للعبودية والتهميش اللذين كانا سائدين في غابر الأزمان، مروراً بزمن الثورة الصناعية والاستعمار وإبصار الماركسية النور، عطفاً على الرأسمالية بحيثياتها، كانت الديمقراطية تفرض نفسها في حفظ حقوق الإنسان في نفسه ومجتمعه.
الديمقراطية أو تجزئتها إلى "ديمو- كراتس"، كما في اليونانية، أو بمعناها الذي اتخذ شكل حكم الشعب شعاراً، أعطت له حقّ سلطة نفسه. بعبارة أخرى، أثبتت سلطة الشعب أن الديمقراطية، رغم قدمها ومعاصرتها أوائل الشعوب في العالم منذ عصر اليونانيين سنة 500 قبل الميلاد، لم يعمل بها الكثيرون لاحقاً، لكنها بقيت بشكل من الأشكال، وإلى حد ما، ترافق الأفكار والنظريات، كما بدا واضحاً في نظرية العقد الاجتماعي عند جان لوك. لم يكن العقد ديمقراطية، لكنه كان يحمل شيئاً من الديمقراطية في بعض تفصيلاته، وفي فكرته نفسها أيضاً، إلا أنه لم يعمل بالديمقراطية رغم سبقتها لأسباب فردية شخصية كانت تدر بالنفع الأول والأخير على الحاكم أو الدولة ومصالحها.
كثيرون أتوا بعد التجربة الأولى للديمقراطية في اليونان القديمة – أثينا - والتي اتخذت شكل الديمقراطية المباشرة من بين الأنظمة، رغم الاستبدادية وحكم الأقلية اللذين كانا من الأشكال الطبيعية للحكم في ذلك الوقت. لم تكن الديمقراطية تنتشر، كما نعرفها اليوم، والتي بقيت مثالاً كما يعرفها العالم، ونتاجاً للتجربة الأوروبية أو الديمقراطية الليبرالية، التجربة الديمقراطية الأوروبية لولا ارتباطها بعاملين مهمين ساهما في طلب الناس والشعوب بالحق بالمشاركة بالحكم، ولولا مشاركة الشعب في الجيش، والسبب الثاني كان الضرائب، فالجيش كان من طبقة النبلاء الذين كانوا هم النخبة لتولي الحرب، فلم يكن يحق للشعب المطالبة بشيء يتعلق بالحكم، إذ إنهم لا يساهمون بشيء على الصعيد العسكري الذي يتخذ شكل الاستعمار وأخذ خيرات البلاد لصالح الحكومة والدولة فقط، لكن الحال تغير بعد أول جيش شعبي قاده نابليون بونابارت، وبسبب الضرائب التي شكلت تدريجياً، وفي نهضة عصر التنوير، مطالبة الشعب بالمشاركة في الحكم.
هذه الديمقراطية التي تعد وليدة ذلك الوقت، تطورت مع الزمن تدريجياً، فحتى أثناء الديمقراطية في أثينا والديمقراطية المباشرة وشعارها الأخّاذ في تحكيم سلطة الشعب، لم يكن النظام مثالياً، لأنه لم يكن يسمح للعبيد والنساء بالحضور والمشاركة في المسائل الحكومية والتنفيذ السياسي مقارنة مع فهمنا الحديث للديمقراطية.
وحتى مع التجربة الأوروبية التي كانت الديمقراطية آنذاك مثلاً تحسب لما يدفع الضرائب ويملك ثروة أعلى ينتخب ممثل عنه في الحكومة، كان المكان الاجتماعي أو مقدار الثروة يحدد قوة صوت الفرد وقدرته وحقه في المشاركة في الحكم. وعلى أية حال، هكذا تطورت الديمقراطية تدريجياً منذ العقد الخامس قبل الميلاد إلى اليوم، لنراها تراكم تجارب وأشكالاً مختلفة إلى أن وصلت إلينا كما نعرفها الآن.
بعد أن طرحت الديمقراطية مبدأيها الرئيسين، استمدت قوتها الشعبية والأخلاقية بإقرارها أولاً استقلالية الفرد وحريته في ألا يمارس أحد أو يفرض سلطته عليه من قبل الآخرين من دون رضاه أو رضا الأكثرية، فالناس يجب أن يكونوا قادرين على السيطرة على حياتهم، وثانياً بفرض المساواة كفكرة، فيجب أن يكون للفرد شخصياً الفرصة في التأثير في قرارات الناس في المجتمع، فكلنا متساوون، ولنا حق الاختيار والقوة - قوة صوتي الانتخابي يساوي صوت غيري - وعلى هذين المبدأين، انطلقت الديمقراطية في اكتساب شعبية بسبب الشعور بالعدل، وبأن للكل فرصاً متساوية مثل أي شخص وفقاً لقواعد مشتركة.
تضمن الديمقراطية نظرياً حقّ الجميع، وتعد قاعدة أساسية في قوانين حقوق الإنسان، لكن بعض الاختلافات، حين نضعها قيد التنفيذ، تقف أمامنا، إذ إننا نفتقر إلى آلية اتخاذ قرار بشأن كيفية معالجة اختلاف وجهات النظر والأقلية المعارضة، لأن الديمقراطية توفر آلية بسيطة، وهي حكم الأغلبية، ولكن حكم الأغلبية لا يعني أن مصالح الناس كلهم تمت تلبيتها. لذا، أوجد تطبيقها ثغرات في التعامل معها.
رغم ادعاء تطبيق الديمقراطية على اختلاف أشكال الحكم في الكثير من الدول التي اعتمدت النظام البرلماني أو الملكي أو شبه الرئاسي أو الفيدرالية أو الرئاسي، كانت الديمقراطية تشهد ثغرات بشكل ملحوظ تارة، ومبطن تارة أخرى، فالأساس في شرعية الحاكم في الديمقراطية هو الشعب مقابل التوارث الملكي أو النظام القبلي أو انحصار الحكم في سلالة خاصة وعدم تمريره إلى الشعب، إذ إن أي نظام يؤثر في حكم الناس خلافاً للمساواة واستقلالية الفرد بشكل أساسي وللديمقراطية في الحكم، بحسب الثروة أو التنصيص أو الملكية الوراثية وغيرها من أشكال الحكم، لا يعتبر ديمقراطية، لأن ذلك يضرب المساواة في الصميم، من حيث إنها لا تثبت للشعب في الانتخابات وقوة الصوت فقط.
صحيح أن الانتخابات عنوان واضح للديمقراطية، ولكن الأخيرة أوسع من ذلك، وتشمل الترشح إلى الانتخابات أيضاً، وتتسع لتشمل كل شكل من أشكال المشاركة، كالتظاهر أو الانتماء إلى جهاز حزبي أو تشكيل حزب، وغيرها من أشكال المشاركة في الحكم والمجتمع السياسي.
يمكن أن تكون الأنظمة الديمقراطية في أغلب الأحيان أكثر شمولاً من رغبات الشعب والبنى المؤسساتية أو تصويتية فقط، بل استغلالها - الديمقراطية - لتحسين الشعب كجزء من الديمقراطية، من خلال إشراك المزيد من الناس في عملية صنع القرار.
تنقد الديمقراطية من خلال بعض الثغرات أيضاً كمثال لنقل سابقاً، رغم تطور كثير من الدول في التعبير عن أشكال الديمقراطية فيها، لكن لم تكن المرأة في المملكة العربية السعودية تمتلك حق التصويت حتى العام 2011، كما أنه لا يمكن لأي شخص أن يترشح ما لم يكن من الأسرة الحاكمة.
وفي الديمقراطيات الراسخة اليوم، هناك قطاعات تنتقد كثغرات أخرى من المجتمع، والتي شملت العمال المهاجرين والسجناء، الذين لا يتم منحهم الحق في التصويت، على الرغم من أن العديد منهم يدفع الضرائب ويلتزم بجميع القوانين. وتعد قضية هيرست في العام 2005 ضد المملكة المتحدة، والمرتبطة بالسجناء، شاهداً على ذلك.
المشهد الأميركي القريب كان صرخة مدوية لحاضني ومصدّري الديمقراطية الليبرالية ومتبنيها عبر كل وسائل الغزو الثقافي والسياسي والعسكري منذ قرن ونصف القرن تقريباً، فمشهد مناصري ترامب لدى دخولهم مبنى الكابيتول في مطلع العقد الثالث من هذا القرن، في ظل تطورات الانتخابات الأميركية في العام 2021، يجعلنا نقف موقفاً مذهولاً من استغناء الدولة العميقة في الولايات المتحدة عن فكرة كانت تستميت لأجلها لفترة طويلة من الزمن.
وهنا نتساءل: هل المشكلة في النظام نفسه، وفي الديمقراطية الليبرالية التي تتبناها الولايات المتحدة، أو أنها كانت مجرد وسيلة لأجندات خدمت الساسة الأميركيين كل تلك الفترة، وجاء زمن الاستغناء عنها كشعار، لأنها باتت تشكل حبلاً يقيد كل الممارسات الأميركية في الآونة الأخيرة، ليتبين لنا جزء من فكرة الديمقراطية وتعاطي الدول المهيمنة مع شعارها والاختلافات بين الاستخدامات والواقع التي أتت به؟
وفي كل أشكال وأنظمة الحكم، منذ الفاشية، وإلى الشيوعية، ثم الليبرالية، وكذا الديمقراطية، كانت هناك انتقادات ومشاكل، بسبب اتخاذ دول مختلفة طرقاً للتعبير أنظمة لاستخدام الديمقراطية. مثلاً، الجمهورية الإسلامية الإيرانية التي اعتمدت الديمقراطية الشعبية الدينية منذ ثورة السيد الخميني الإسلامية. أدخلت إيران شعار الإسلامية برضا الأكثرية في معرض الديمقراطية، واتخذت رسم الجمهورية، إضافة إلى الإسلامية، بتأييد الشعب، وترسيخ "لا شرقية ولا غربية"، فلم تنتمِ إلى الاتحاد السوفياتي أو إلى أميركا.
كما أن أميركا اتخذت الديمقراطية الليبرالية سياسة، فبدأت هناك سياسات الدول وديمقراطيات جديدة وثورات وانقلابات اتخذت شكل الديمقراطية الليبرالية كنموذج في الغالب، فكانت من أبرز مشاكل الديمقراطية محاولة فرض الدول الليبرالية ديمقراطيتها على الشعوب، لأهداف تخدم نمط سلب ونهب خيرات ومقدرات الأمة وخدمة سياساتها، فالأجدر والأصح أن تترك ممارسة الديمقراطية لكل مجتمع بحسب خصائصه، فلا يصح القالب الليبرالي على مجتمعات شرقية إسلامية على سبيل المثال. إن نوعاً كهذا من الاستغلال للشعار وفرضه ليس مشروعاً.
إذا تواجدت مبادئ الديمقراطية وقيمها وشروطها مع اختلاف شكل الحكم، ثبتت لذلك المجتمع بحسب ظروفه. هذا الصراع بين الديمقراطية الليبرالية والتحررية الغربية التي لا تتناسب مقابل شعار "لا شرقية ولا غربية" كنموذج عن استغلال الثورات الملونة وقوى الحرب الناعمة في سبيل فرض أجندات سياسية لا ترتبط بالأخلاق وحقوق الإنسان والفرد وحق المساواة بشيء، وتسيء إلى الديمقراطية بجوهر مبدأيها.
سوء استخدام الديمقراطية وعدم تطبيقها بمفهومها الواضح الصحيح أسهم في تقليص أعداد المنتخبين، وأحدث لامبالاة لديهم، ما سمح للأقلية بأن تخرج إلى المجتمع السياسي شخصاً للسلطة، ويطبق حكم الأقلية على الأغلبية.
في المقابل، إذا ما تمكنت الأغلبية ووصلت بالديمقراطية إلى المجتمع النيابي، استخدمت التنكيل والإبادة والسجن ونفي المنافسين لتمكين نفسها، ما يؤدي بسبب عدم مراعاة حقوق الإنسان واستغلال الديمقراطية إلى اختلافات واحتقانات داخلية قد تصل إلى حد الحروب الأهلية، كما يمكن إضافة التطور وثورة الخوارزميات الخاصة بالمعلومات الشخصية إلى قائمة عدم نزاهة الديمقراطية عند البعض، من خلال استغلال البيانات الشخصية وتصنيفها عبر البرمجيات والنشاط في الإنترنت للتلاعب بالرأي العام والسلوك الانتخابي والوعي ليدعم مرشحاً أو يشوّه صورة منافس.
كما أن سطوة رأس المال أخلَّت بالمساواة بين المنتخبين، فإذا لم يستطع المنافس المستخدم ديمقراطيته في الترشح في مجاراة رأس المال، والذين هم القلة، كيف تثبت المنافسة والمساواة بتفاوت بالسلطة؟ ولا ننسى تنامي نزعة اليمين والقومية وانقسامات الهوية الدينية في تأثيرها إلقائها دوراً في مشاكل إثبات الديمقراطية حول العالم، ليكون المجتمع مستقلاً ومتساوياً في خصائصه وهويته التي تنتمي إليه من دون تقليد أو فرض الديمقراطيات الأخرى قالبها عليه.