الإعلام العربي من منظار اجتماعي
من الأخلاقيات الأساسية في قيم كل فرد ومجتمع، وخصوصاً للمتصدر للدور الإعلامي، أن يكون لديه منظومة خاصة به تحدد أفكاره وأسلوب سير عمله الإعلامي.
إنَّ المجتمع الإعلامي بما له من خصائص تأثيرية وجماهيرية تواصلية جعل مهنة الإعلام من المهن التأثيرية في الرأي العام بالمستوى الأول، فبرزت الالتزامات الأساسيّة التي يجب أن يتحلى بها كل ممارس للإعلام، واتخذت شكل الامتثال لبعض مصاديق الأخلاق والأفكار وتهذيب الممارسة الإعلاميّة من العيوب والمصادر التي تؤثر سلباً في وعي الجمهور والمتابعين والمجتمع، فتولدت علاقة وثيقة بين الخبر والإعلام، وكان لزاماً على كل وسيلة إعلامية تخدم الرأي العام أن تلتزم بأخلاقياتها ودورها للصالح العام أولاً، وحفظ السلوكيات العامة والخاصة ثانياً، فكل وسيلة إعلامية لديها حقوق تجاه جمهورها وتجاه النقطة الجغرافية التي تتمركز فيها. ولنكون أكثر وضوحاً، فلوسائل الإعلامية حق تجاه الأرض وسيادتها كحق عام، وحق تجاه جمهورها المتمثل بالشعب والمواطنين كحق خاص.
ومن منطلق أن الإعلام يرتبط بمواثيق أساسية تجاه الدولة والمجتمع، أتت جملة من الأخلاقيات، باعتبارها الالتزامات الأساسية التي يتحلى بها كل إعلامي، والمتمثلة أساساً بضرورة العمل من أجل الوصول إلى تغطية منصفة وشاملة ودقيقة وصادقة وواضحة، مع مراعاة حماية المصادر وتحقيق الصالح العام، عن طريق احترام القانون وحقوق الحياة الخاصة للأشخاص وتصحيح الأخطاء في حال وجودها، فهي نوع القيم والمسؤولية والأخلاق الواجب احترامها والالتزام بها في ممارسة الإعلام، وفيها تُحَدّ حرية التعبير من أين تبدأ وأين تقف.
ومن الأخلاقيات الأساسية في قيم كل فرد ومجتمع، وخصوصاً للمتصدر للدور الإعلامي، أن يكون لديه منظومة خاصة به تحدد أفكاره وأسلوب سير عمله الإعلامي، وتتوسع هذه الأسس لتشمل كل وسيلة إعلامية، لكونها تتمثل بقراءة الرأي العام، وتأخذ على عاتقها نشر الوعي وتثقيف المجتمع العربي، لكونها تنتمي إلى هذا المجتمع.
وهنا تمحورت الإيديولوجيا حول أنها، إضافة إلى القيمة الأخلاقية والمنحنى الثقافي، تعنى بواجب تجاه الفكر الجمعي، وتلقي إليه الصالح والمفيد الذي ينمي حس الانتماء إلى المجتمع الذي تمثله الوسيلة الإعلامية، إيماناً تاماً منا بدور الإعلام الفعال في هذا المضمار.
منذ تقادم العصور، والإنسان بطبعه البشري يميل في معتقداته وطبائع مجتمعه إلى المحيط حوله بشكل خاص، والأفكار والمفاهيم المزروعة فيه بشكل عام، وهو نتاج فكر خاص من الناحية الإيديولوجية ومرجعيات تطوي في داخلها فرداً جديداً يخرج إلى المجتمع. ومن هنا كانت نشأة علم الأفكار أو لنقل بالمعنى الحديث الفكر الإيديولوجي.
وكذلك تنامت الوسائل الإعلامية، منذ النشرات المخطوطة أيام الرومانيين في العام 58 قبل الميلاد، التي كانت تأخذ عنوان الصحيفة التي كانت تعد من أوائل وسائل الإعلام، إلى الصحف المطبوعة في القرن الخامس عشر، مروراً بالراديو وتطوره، ثم التلغراف، ثم التلفزيون ومراحل التطور والنهضة العصرية، ثم الحاسوب، وإلى اليوم، حيث أصبحنا "سكان قرية عالمية واحدة، وساد هذا العالم الذي نعيش فيه التزام كامل، أصبح كل إنسان فيه موضع عناية الآخرين، وذلك بفضل وسائل الاتصال بالجماهير الحديثة، وفي مقدمتها التلفزيون". هذا ما قاله عالم الاجتماع والإعلامي البارز مارشال ماك لوهان في ستينيات القرن الماضي، أي قبل انتشار القنوات الفضائية.
تحققت تلك الرؤية اليوم. وفي رأيه، إن عصور البشرية قسمت تبعاً لوسائل الاتصال التي عمت كلاً منها، فالعصر القبلي هو العصر الذي كان فيه الاتصال من الفم إلى الأذن. إنه عصر الكلام المنطوق والاتصال المباشر أو شبه المباشر، والعصر الإلكتروني هو عصرنا الذي نعيش فيه. هو عالم الفواصل الذي ألغى الخطبة المؤدية إلى التحجر والجمود، فالعصر الإلكتروني، في رأي مارشال ماك لوهان، وضع حداً لسيطرة العين على سائر الحواس، ليعيش الفرد من الآن فصاعداً بكلِ حواسه.
كانت هذه الوسائل التي ساهمت في الاتصال الجماهيري محط مشاركة واهتمام كل العالم. ومع التقدم العلمي والتكنولوجي، أخذت مفاهيم الاتصال تتطور، ويتطور معها ويزداد التأثير الذي تحدثه كل وسيلة إعلامية في عصرها، إلى أن حدّت العالم، ووصلت البعيد، وأنتجت خطوطاً فكرية وأفكاراً تنموية صعدت بالوعي إلى مستوى يواكب عصر النهضة والتطور، بل أصبح العامل الأساس في بناء رؤية فكرية شاملة للحياة المعاصرة، عبر إشاعة الوعي وإغناء الفكر وتجدد المفاهيم وتحقيق الأثر، إذ إن التعامل مع ما هو مسموع ومرئي تتولد عنه علاقات جديدة بمصادر الثقافة والإعلام، وهي علاقة متفاوتة التأثير والتفاعل سلباً وإيجاباً، ولا سيما مع تعميم الملكية الفردية لأجهزة البث والاستقبال، وتعدد القنوات الفضائية، وانفتاح نوافذ المشاهدة، وتنوع ما توفره تقنيات الاتصال الحديثة من معلومات ومضامين ثقافية، ليكون تطور الأفكار والثوابت عند كل فرد قريناً أساسياً لتطور وسائل الإعلام العالمية والمحلية. وهنا ارتكز دور الإيديولوجيا.
كلمة إيديولوجيا بمعناها العلمي القديم، كما قدم الكاتب عبد الله عروي في أصل الكلمة ومفهوم كتابة الإيديولوجيا، هي كلمة دخيلة على كل اللغات، ومشتقة من اليونان، وأصلها اللغوي يعود إلى اللغة الفرنسية، حيث ترادف معنى "علم الأفكار"، وتعني الأفكار التي يعتمد عليها في طريقة التفكير المميز لفرد أو جماعة أو حتى ثقافة، فالنظريات الإيديولوجية تصنف كمجموعة نظامية من المفاهيم في الحياة أو الثقافة البشرية، وعلى حد تعبير بيكر، مرجعيات ذهنية يؤمن بها الفرد ويترجمها السلوك في واقعه الاجتماعي.
وعليه، يثبت أن كل فعل من أفعال المجتمع باختلاف العوامل، سواء كان دينياً أو سياسياً أو اجتماعياً، ينطلق من مجموعة نظريات ومفاهيم، وهذه هي الإيديولوجيا، فكل إنسان أو مجموعة أو مجتمع لديه إيديولوجيا خاصة به.
وبما أن بحثنا يخص الإيديولوجيا الإعلامية، فقد برز هذا المصطلح ليتم استخدامه لدى "المفكرين والمثقفين والقائمين بالاتصال في مؤسسات الإعلام العربي". ويكون المعتقد الديني أو الثقافي الذي يؤمن به الفرد ويترجمه سلوكاً في الواقع المعيشي الحالي أساساً لذلك.
إن الإعلام رسالة رؤية، بمعنى أن الرؤية أفكار تسبق السلوك الاتصالي، والممارسة الإعلامية هي نتاج رؤية إيديولوجية بالمعنى الاصطلاحي لا اللغوي (تتجسد صورها في المنتج الإعلامي) عبر وسائل الإعلام المختلفة.
يعدّ النظام الاجتماعي الذي تعمل في إطاره وسائل الإعلام من أقوى الأسس التي تؤثر في عمل القائم بالاتصال، لأن أي نظام اجتماعي يقوم على القيم في نسق من مبادئ ونظريات تخدم إيديولوجيا المجتمع. وكما أن المجتمع، بما له من خصائص، ينطلق بإيديولوجيا ذات طابع خاص به، كان لوسائل الإعلام العربية على وجه الخصوص، بما أننا في مجتمع عربي، بصمة خاصة في رسم إطار أفكار المشاهد العربي وإثبات أفكار ومرجعيات لديه، لتساهم بشكل أساسي في عصرنا الحالي، عصر النهضة والتطور، وخصوصاً عصر الإعلام، في وضع إيديولوجيا خاصة به.
ومن منطلق أنّ الإعلام يساهم في الوعي الجمعي - المجتمعي - كان عليه أن يرسم إيديولوجيا خاصّة به تنطلق من ثوابت تعكس فكر المشاهد العربي في طبائعه وأخلاقه وما يمثله في مقابل اختلاف كبير وإيديولوجيا تبثّ لمحو بعض نزعات الفرد العربي لأجل مصالح خارجية معينة اتخذت نمط الإيديولوجيا كسلاح من قسم الغزو الفكري والثقافي، يكون لها يد في بث إيديولوجيّتها في المجتمع العربي لغرض ما.
إن الخلفيات الإيديولوجية التي تنطلق منها معظم وسائل الإعلام العربية تسهم بشكل مباشر في تكوين بيئة مسطّحة فكرياً وثقافياً ومعرفياً، بما يؤدي إلى إعادة إحياء إيديولوجيات تاريخية متحجّرة، من دون إضفاء أي تجديد أو معالجة للتاريخ وحيثياته، والمساهمة في إشعال فتيل الاختلاف على جزئيات ليست أهم أو على قدر من أهمية الواقع المرير اليوم، فنرى إعلامنا العربي يمارس لعبة تحجير أفكار الرأي العام بما يثيره من نعرات لا تناسب عصر النهضة والتنوير، ولا حتى مواكبة ثورة السرعة والمعلومات، إضافة إلى تطور التكنولوجيا.
إن مساهمات الإعلام محصورة في واقع أجندات معينة. ولنكون أكثر إجادة ودقة، فإنها تبين تبعية الإعلام العربي لإيديولوجيات بعيدة عن مستوى الثقافة لدى المجتمع العربي، ولا تمت إلى عادات الفرد العربي وأسلوبه ونمطه بصلة.
وبدورها، لا تساهم في إنتاج إيديولوجيات جديدة، بل إن تبعيتها تولد تفخيخ ما تبقى من وعي، ونسف آليات العقل، واستبدالها بالتعصب الديني والطائفي، وبث مضامين تنسف الاستقرار في المنطقة ولدى الشعوب، وتمهد لأجندات سياسية وثقافية خارجية تخدم مصالح المستعمر قلباً، وإن لم يكن قالباً.
زبدة الحديث بعد الاطلاع على سياسات وبرامج القنوات العربية والإعلام العربي عبر ما يبثه من أفكار وذهنية من خلاله، يتبيّن أنّ الإعلام في العالم العربي لا يساهم في تشكيل آليات العقل في مسار إيديولوجيا معينة، بل يتبع إيديولوجيا الممولين، ولو بشكل مبطن، مهما ادعت الوسيلة الإعلامية الموضوعية، سواء كانت دينية أو سياسية أو ثقافية.
استناداً إلى مقولة عالم الاتصال شارل ماكلوهان: "الوسيلة هي الرسالة"، تحاول العديد من الدراسات حول الإعلام في العالم أن تثبت أن المحتوى الذي يصنعه الإعلام هو محتوى مؤدلج بطبيعته، ورسالته بحد ذاتها مؤدلجة، ولا يمكن الثقة بها.
كما لا يمكن تناسي دور الإعلام العربي في تغطية إجرام الرئيس العراقي صدام حسين وقمعه شريحة من الشعب العراقي ودعمه والترويج له، لنرى أن الواقع اختلف عربياً وعالمياً عندما أقدم على غزو الكويت، وهذا مثال للتضارب الواقعي ودور الإعلام العربي في تزييف ورسم أخبار وأفكار مهَّدت لإيديولوجيات خلاف الواقع الصحيح والعمل الإعلامي الأخلاقي المسؤول عن إحياء فكر الشعوب وثقافتها.
ويعود التناقض في استخدام الإعلام على الصعيد الإيديولوجي إلى عدم الالتزام بالدور الإعلامي بشكله الصحيح، فالإعلام العربي يتبع لحيتان المال على مستوى الممارسة الواقعية والموضوعية الإعلامية، إضافةً إلى هيمنة الوساطة الخارجية على سياسات دول العالم الثالث.
هذه الأسباب وغيرها كانت من عمدة اللاإيديولوجية العربية، إذ إن وسائل الإعلام العربي لن تستطيع إنتاج إيديولوجيات تليق بالشعوب وبالمجتمع التي تنتمي إليه في ظل ظروف كهذه، لأن القوى المهيمنة لن تسمح بشكل أساسي بتنوير مجتمع غافل عن محاولة هؤلاء الدول سرقة مقدرات الأمة وسلبها والاستيلاء بطرق ملتوية على خيرات العالم العربي، كما أن دور إثبات وجود "إسرائيل" في المنطقة من هذه الأسباب الأساسية، لعدم تمكن الإعلام العربي من التأثير مع إكمال تبعيته للممول وحيتان المال.
إنَّ الإعلام العربي استخدم موقعه بشكل أساسي على الصعيد الإيديولوجي بامتياز في مضمار أبعد ما يكون عن الواعز التنموي لدى الفرد والمشاهد العربي، بل كانت نتيجة كل محاولته مزيداً من الدمار والاختلاف وزيادة المهاجرين وإشعال الشارع القومي العربي والأحزاب الطائفية.
إن الإعلام العربي عندما يثير قضايا عفى عليها الدهر، وأكل عليها الزمان وشرب، يفتح أفقاً لجماعات عربية للأسف، وبتمويل عربي، للخروج إلى المجتمع السياسي والمجتمع العربي، فتعيث فساداً في الأرض وتنهب وتقتل وتزيد من تخلف الشعب العربي وانطماس آثار هويته، بثوب الإرهاب مثلاً، أو الجماعات التكفيرية، أو العنف بين القوميات وسيطرة المذاهب والطائفية وتصديرها كأساس، بينما هناك ما هو أهم في واقع الشارع العربي الذي يعاني نقصاً في الوعي وانعدام حقوق الديموقراطية المسلوبة من السلطة العربية والفقر والجهل والمشاكل الاجتماعية والتربوية والبطالة وغيرها من مشاكل.
كان أولى بالإعلام العربي تسليط الضّوء عليها وحلها وتنشئة جيل مثقف يحارب دواعي هذه الأمور في المجتمع، كما كان من الأولى للإعلام العربي تحسين جودة الإعلام نفسه، والمساهمة في تهذيب الخط السياسي عن طريق مساهمته في الإيديولوجيات الجديدة، فالأجدر والأصح أن تترك ممارسة الإيديولوجيا العربية لكل مجتمع بحسب خصائصه، فلا يصح القالب الليبرالي على مجتمعات شرقية إسلامية مثلاً، فهذا ليس مشروعاً.
وإذا تواجدت مبادئ وقيم وشروط الإيديولوجيا مع اختلاف شكل الحكم، ثبتت لذلك المجتمع بحسبه، وهذا الصراع ما بين إيديولوجيا الليبرالية والتحررية الغربية التي لا تتناسب مقابل شعار المجتمعات العربية الشرقية. أما فرض الإيديولوجيات، فلا تمثل المجتمع تبعاً للممولين نموذج عن استغلال الثورات الملونة وقوى الحرب الناعمة في سبيل فرض أجندات سياسية ليست ترتبط بالأخلاق وحقوق الإنسان والفرد وحق المساواة بشيء وتسيء إلى الديموقراطية بجوهر مبدأيها.
وبناءً على ذلك، نحتاج إلى وسيلة إعلامية عربية تتبع، بل تصنع إيديولوجيا تمثلها بحرية وموضوعية، بما أن دور الإعلام أساسي لبناء إيديولوجيات جديدة تساهم في بناء المجتمع على مسير هذه الأفكار، لجعله ذا طبائع تمثله كمشاهد عربي، وذلك يتحقق عندما يتجرد الإعلام العربي من اتباع الممول بشكل خاص، والتماشي مع أخلاقيات المهنة، وممارسة الإعلام كما يجب، إذ إن عالم الإعلام محكوم من عالم الإيديولوجيا لتبني الوسيلة الإعلامية العربية إيديولوجيا تمثل الواقع العربي، فلا يوجد إعلامي من دون إيديولوجيا، لكي لا نقع في فخ التناقض في استخدام الإعلام على الصعيد الإيديولوجي، ولنكون ذوي ريادة في المجال الإعلامي، لإنشاء مجتمع فاضل بوعي وثقافة تنمّي تكوينه وانتماءه إلى العالم العربي بأساسيات وثوابت وطنية عربية، ثم خلقية متسالم عليها، بعيداً من تأثير القوى الناعمة ودخولها ساحتنا العربية وإدخال ما لا يناسبنا...