اللاء.. آمنا بها كما آمنا بالله
في هذا الزمن الذي آلت السُبُل والأقدار أن نكون فيه، حيث يُقتصُّ من كل من رفع هذا البيرق، يُحاصَر، يعاقَب إلى أن يغرق، علينا أن نشحذ لاءنا هذه، كي تتوهّج أكثر وتتألّق.
لا یکفي أن تُرفع اللاء حرفاً، فاللاء تحتاج، لألف، عمادٌ من ثوابت الأرض، وجوهرٌ ومعدن، صلبٌ لا تشوبه الشوائب، ولا تغترسه البراثن، ولا تدنّسه الدنائس.
هذه اللاء، تحمل على جنبيها، في ناحٍ سيفاً إن برزت العدا لا يُبقي لها دماً سائلاً، وفي ناحٍ قلماً، ما دام النّبض، يبقى الحبر فيه سائلاً.
في جوفها فكرٌ على اختلاف الرؤى والرسائل، وروح وما أوتي من وسائل. هكذا تُرفع اللاء، هكذا، لا تفنى.
في هذا الزمن الذي آلت السُبُل والأقدار أن نكون فيه، حيث يُقتصُّ من كل من رفع هذا البيرق، يُحاصَر، يعاقَب إلى أن يغرق، علينا أن نشحذ لاءنا هذه، كي تتوهّج أكثر وتتألّق.
تقولون كيف؟ وهُم لم يتركوا يعتب على رقابنا سيف، وهنا تأتي اللاء الأولى، سمّوها ما شئتم، نابعةٌ من الروح، من المعدن، من الجوهر، من الرغبة في البقاء، اللاء، لا للاستسلام، وهي أبسط اللاءات، ننطقها بغير تَلَفُظّ، عندما نَلفظ عن وجوهنا كَلَح الليل ونستقبل الصباح. بدون توقّعات، نلملم وهم الخيالات والأحلام، التي تركناها في المنام، نغوص في الواقع العكر، بكل الشؤم والخيبة، مع ذلك، نبدأ يومنا، بكل هذه العمليات التي تجري في دماغنا، في وعيٍ ولاوعي، نقول لا، أول اللاءات.
يعاندنا نهارنا، نصطدم بعوائق حظرهم، من عُملةٍ منهارةٍ ودواءٍ متخفٍّ في وباءٍ متفشٍّ، من طعامٍ لا نزرع وملبسٍ وأدواتٍ وتقنياتٍ لا نصنع، ومن سلاطين جور لا تُردع. نافقوا وكذّبوا وصنّعوا منتوجاتٍ من الوهم لأعوام، باعوها على المنابر كأحلام، للعوام، استوردوا ما لذّ لهم وطاب، بعمولةٍ من الصّرر وشَغْلوا العقول وأعمار الشباب. أكلوها، شربوها، دخّنوها ورموا لنا الفتات والأعقاب، هذا هو الواقع بكل سيوفه المسلولة على الرقاب، لكن هنا، خضم المواجهة، نرفع اللاء، لا للإحباط.
ليس علينا الالتزام بتلزيماتهم ومستحضراتهم ومستورداتهم، لا، نحن أقوى من أن نتيح لهم المسعى، نحن نصنع، وإن لم يوفّروا الطاقة والمصنع. من قال بأنّ لهم أن يحتكروا العيش وسُبُله، نحن نعيش، لا بالطحين ولا بالمناقيش، بما نصنعه من الهباء المنثور على بساط الدراويش، نصنع كل ما رفضنا أن نخضع.
قد شيّدوا صُروحاً للعلم، علمٌ استقوه من الأصنام. وضعوا مناهج، قالوا أنها في حبّ الأوطان، لكنّها من حيث علموا أو لم يعلموا، كانت في حبّ السلطان. وضعوا سُبُل التنشئة والتربية، الرجعية والشعوبية، الإقطاعية والقبلية، ودعونا باسمها للوطنية والمدنية. فكانت كل الصّروح، تعلّمنا الخوف، ليس إلّا، الخوف من السلطان، على امتداد الأوطان، في الإملاءات والتعبيرات والإستظهارات. واليوم، تجري الصروح كما تشتهي العُمْلَة، تزداد خوفًا من كُلِّ عَمْلَة، لذا، لا، لا للخوف.
أملوا علينا، كثيراً، جزيلاً وتبجيلاً، بجزءٍ من العالم، أنّه الحاكم والأعلم، مُنّ عليه العقل وأنعم، ومُنينا بالجهل والعلقم. هكذا أنتم، تصالحوا مع أنفسكم ومع محتلّكم وغاصبكم، لا أكفّاء بينكم، خذوا الرُخَص الأجنبية والاتفاقات الدولية، كُتباً مُنزلة، لا تُتعبوا أنفسكم. وهنا المصالحة، ليست سوى مصلحةً دون مصارحة، مصلحة المساومين في دوام المضطهدين، لذا، لا للمصالحة.
يأتي الردّ، أما إن أصرّيتم، فنحن لا نمنعكم، اعملوا، لكن اتبعوا، نُنزِّل عليكم الارشادات، في دعم الغدوات والحفلات، بكلّ اللّغات، انسخوا منها، قَلِّدوا وتَقَلَّدوا، منا وساماً ونيشاناً في حفظ الملك والتيجان والصولجان، ما دُمتم نُسخٌ مقلَّدة، نبقى الولاة والرعايا عن النصوص المُعدّة. لذا، لا، لا للتبعيّة والنسخ والتقليد، أغلالٌ صيغت لعبيد، تسلب الأمل إلى البعيد.
طبعاً، سيعرفون أنكم حاولتم وستحاولون، في سُبل كفّ النّسخ، سيكونون قد تنبّأوا، ولكم سيتنبّأون، بأنكم ستفشلون. سيقولون إنّكم، محصورون، مقيّدون، متقوقعون، تشغلون أشغالكم في قمقمٍ وهم المتطوّرون. أنتم في كهف، وهم المستكشفون. لن تقدحوا بشررٍ من حجارتكم، ولا عجلة من عندكم ستسير، إنكم مُسيّرون. هكذا هي حيَلهم، التي تعلّموها من كبارهم، فراعنة الأرض، الذين عملوا عندهم سَحَرة بالسخرة. لذا، لا، للحصر والتقوقع، إنّ لنا رفاقاً في المسيرة، نقاسمهم، عصا وحجر.
حين تنفذ الحيل، سيعمدون، مع الشكوك والظنون، إلى المقايضة. يعرضون عليكم، أعطونا بعض اللاءات، بعض الأقلام والسيوف والمناجل، وخذوا وعوداً ورسائل، قد نضمن لكم بعض الحقوق، فلمَ كل هذا العقوق؟
سيثيرون الدسائس ويرمون معها كل الهواجس، بين استغلال واحتكار، استغلال ضعاف النفوس واحتكار الحلول، فلا، لا للمقايضة.
في مساعيهم، سيسعون للتضييق، كلّما اشتدّ لكم عود، سيضعون سدود. سيخبرونكم، أنكم بين جنّةٍ ونار، في حصار، كلّما سلكتم في سبيلكم هذا، اقتربتم من النار، وابتعدتم عن الجنّة التي نسجناها، بأوهامهم وأطماعهم. فلا هم ينسجون الجنّة، ولا هم يصنعون النار، لا للحصار.
يرونكم معاندين، تحاولون ويحاولون، تنهضون ويأفلون. يحول لهم رمي الأوراق الأخيرة، ويدعونكم لطاولة مستديرة، لتدوير الزوايا وإعداد المرايا، حيث تظهر الحلول، وما هي بحلول، إنما هي بين حؤول ومثول. يدعونكم للقبول، فلتبقوا ولنبقَ، لكلٍّ كيانه وميدانه.
والواقع أنّه، لا حلّ هنا، إنما مهادنة، لا للقبول.
وعندما لا تقبلون، سيدّعون أن لهم المشيئة، وأنكم على إثمٍ وخطيئة. فنحن كثيراً ما زعمنا وظننّا بأنهم كفار، لكننا أخطأنا، إنهم مؤمنون، بل شديدو الإيمان، بألوهيّتهم وربوبيّتهم على الزمان والمكان. فهم في نظرهم، أرباب هذه الأرض، يستبيحون منها ما شاؤوا، ذهبها، معدنها، نفطها، فومها وبصلها، يأخذون منها ما أرادوا باحتلال أو احتيال. وفي نظرهم، هم أرباب البحار والمحيطات والخلجان والأنهار، تُسبِّح لهم الأسماك والأمواج والشطآن، يضعون فلكهم ومرافئهم ومصافيهم ومصايفهم أينما شاؤوا. وأرباب السماوات، يُسيّرون الطائرات والمسبارات، فوق كل التيارات والاعتبارات.
لكنّنا على إلحادٍ من أمرهم، آمنا باللاء، كما آمنا بالله. لا إله، لا ألوهيّة، لا ربوبيّة غيره، وهذا معدن اللاء، أول اللاء وآخر اللاء من الثرى إلى العلياء.
لا نهادن، لا ننافق، لا نجامل، لا نساوم، لا نسأل، إلّاه.
إنّا قد وُلدنا مع موسى، وفينا ألف مسيح من عيسى، وكنّا مع محمد في المسرى، طُبع فينا وجودهم فلا ننسى.
نحمل اللاءات، عصاً، صليباً وفأساً، ونسمع تردّداتها مع الشهداء في العروجات، ومع ناجي في الرسومات، ومع الأطفال والشيوخ في الغصّات، وفي غصّات طفل المغارة أوّل البكاء، لاء، نحملها شدّة ورخاء، وفي نعماءٍ وبلاء، نموت ونحيا على اللاء.