مئة عام من "العِزبة"!
هذا البلد لم يتعلّم خلال مئة عام أن يحكم نفسه بنفسه، ولم يستطع، رغم كل طاولات الحوار المستديرة والمستطيلة وغير ذلك، أن يصل إلى خلاصه.
مئة عام مرَّت على قيام لبنان الكيان، بحدود مرسومة وشعب متروك فيه لمصيره، تتناوشه تارةً ذئاب الحدود الطائفية، وتارةً أخرى الضباع القادمة من خلف الحدود؛ الكيان الَّذي هاجر أدباؤه حتى كاد الأدب اللبناني يكون أدب المهجر، ورحل علماؤه ونزح أهل الفكر منه، في أكبر حالة هجرة أدمغة قد تحصل في دولةٍ ما في العصر الحديث.
بقي في لبنان اثنان، أحدهما التحق بركب الأحزاب الحاكمة، والآخر لا حول له ولا قوّة. تَعايشَ هذان الرجلان، وقامت على أكتافهما خشبة المسرح التي يُعرضُ عليها فيلم الدولة كل يوم عند الساعة السابعة والنصف، ويُعاد بثها عند منتصف الليل.
لقد تحوَّلت هذه الدولة إلى لجنة تسجّل المواليد، وتحرص على تزويجهم ضمن القيد الطائفيّ، ومن ثم تعطيهم جوازات سفر وإخراجات قيد مصدّقة وطوابع. هذا ما تنجزه الدولة في الأيام العادية، وما عدا ذلك مشاريع مرتبطة بصحوة الانتخابات.
ظلَّ هذا الروتين قائماً إلى أن قامت المقاومة ضد الاحتلال، فأعادت شيئاً من الهيبة المفقودة إلى الهوية الوطنية، وظنَنّا لوهلة أنّنا اقتربنا أكثر من مفهوم الدولة القوية القادرة، حتى أيقظتنا التّحالفات من سكرتنا، ونبّهتنا من غفلتنا، وذكَّرتنا أنه ليس بالرصاص وحده تُبنى الأوطان.
أصبحنا مكبّلين من أجل السلم الأهلي. لا شيء يسير. لا ملفات تُنجز. لا إصلاحات تُقَر. لا حكومات يُكتَب لها النجاح، إلى أن جاء الرئيس الفرنسي، فهبطت على لبنان مظلة دولية كان يحتاجها ويشتاقها. هذا البلد لم يتعلّم خلال مئة عام أن يحكم نفسه بنفسه، ولم يستطع، رغم كل طاولات الحوار المستديرة والمستطيلة وغير ذلك، أن يصل إلى خلاصه.
هناك عقدة جغرافية عميقة يصعب حلّها بين ساكني هذه الأرض. لم تكن هذه الأرض هواهم النهائي، رغم أن الطبيعة أسعفتنا بفصولٍ أربعة، إلا أنَّ الشتاء اللبناني مرتهنٌ بالبرق والرعد الخارجي. نحن لا نحترم الغيوم الوطنية التي تأتي في موعدها أو ترحل في موعدها. كانت قلوبنا دوماً مع الطقس الدولي.
جاء الرئيس الفرنسي على وجه السّرعة. هاله انفجار المرفأ، كما يبدو. حزم أمتعته الشخصيَّة. وفي الطريق، تذكّر أنه ليس إيمانويل فحسب. إنه فرنسا، وليس في توقيت عادي! إنه فرنسا في الذكرى المئوية لقيام دولة لبنان.
ربما علينا أن نتريّث لتتضح لنا الصورة أكثر، لكن من الواضح أن فرنسا عادت إلى لبنان. ذكَّت رئيس وزراء. دعت إلى الإسراع في تشكيل حكومة. لوّحت بعقوبات، وقالت إنها عائدةٌ ثانيةً، لتنتهي المئوية الأولى للبنان كما بدأت من قصر الصنوبر، ليكون شبه الوطن قد أتمّ مئة عامٍ من "العزبة"!