من ليبيا إلى تونس: المقاومة الجيوسياسية بديلاً من الحدائق الخلفية

تونس وشعب تونس في مرحلة تهديد استراتيجي دقيق جداً، وإذا استمر الوضع على ما هو عليه، فإن تهديد الوجود، على غرار التصفية السياسية الداخلية، وتصفية الوطن الليبي دولة وجغرافيا، هو تهديد قائم بالقوة.

  • من ليبيا إلى تونس: المقاومة الجيوسياسية بديلاً من الحدائق الخلفية
    لقد جعل نظام الحكم الحالي من البلد حلبة موالين ووكلاء وظواهر

من ليبيا، سيأتي الجديد دوماً. ومن تونس، يحق لنا الأمل، بل إنه محكوم علينا بالمقاومة من أجل تحقيق الأمل.

لا حلول اقتصادية واجتماعية من دون سيادة أمنية وعسكرية. هذا تحديداً ما نريده. ولا حلول وطنية سيادية من دون مقاومة جيوسياسية على أسس وطنية ووحدوية ومقاومة شاملة واستراتيجية، وهذا بالتحديد ما نرمي إليه بيد واحدة تدرك تشابك الاستراتيجيات والخرائط المضادة التي يعمل عليها العدو، لتغيير الوضع الاستراتيجي لتونس وليبيا وأبعد منهما؛ تغييره عربياً وأفريقياً وإقليمياً ودولياً.

بين حكومة موالاة ومعارضة بالوكالة، وفي واقع نظام حكم متعدد التبعيات، وعديم القيادة الوطنية، وصفري الاقتدار على إنقاذ البلد، يصبح كل الجدل القائم في الواقع الموازي المصغر عبئاً على تونس، وتصبح مشاهد الصراع بالوكالة المصدّرة نحو الخارج مجلبة لكل نزوات وغزوات محورين ممثلين لسياسة الإرهاب والتبعية والتجويع والتطبيع، وهما المحور الإخواني ومن معه والمحور الوهابي ومن معه، وكل منهما مرتبط برعاة الفوضى الدولية المكثفة في المركب الصهيو-أميركي، الذي لا تخرج سياسة الاتحاد الأوروبي بدوره عنها.

إن القضية المتنازع عليها هذه الأيام، والتي طفت على السطح أكثر من غيرها، لا تعدو أن تكون أكثر من ذريعة وسياق لإغراق البلد في متاهة المنصات على الطريقة السورية، والتي أصبحت أمراً واقعاً في ليبيا، ولم تكن تونس معفاة من المشاركة في تخريب ليبيا وتهجير شعبها وذبحه، بل أدت دوراً بارزاً في ذلك، إلى جانب العدو الأطلسي والعدو الخليجي، بحقائق ووقائع لا تقبل اللبس والتشكيك.

 وللتاريخ، لا توجد أي كتلة برلمانية على الإطلاق صادقة صدقاً فعلياً، وواعية وعياً فعلياً بأهمية هذه القضية الليبية، حتى الذين صحَّحوا مواقفهم رويداً رويداً بعد العام 2011 بسنوات متفاوتة، لم ينقطعوا حتى هذا اليوم من العام 2020 عن سياسة اللعب على الحبال والتعاطي مع الشأن الوطني بأسلوب انفصامي محض، وهم يعلمون أنه لا سياسة وطنية ثورية وشعبية بسياسات استعمارية وخارجية معادية لشعوب الجوار، بل لشعوب الحال، لا شعوب الجغرافيا، وبعضها مهادن حتى يومنا هذا لمحور الإرهاب والتبعية والتجويع والتطبيع الذي ذكرناه.

لا يمكن لعاقل على وجه الأرض أن يتصور هؤلاء قادرين على المساهمة الفعالة والصحيحة في تخفيف سفك الدماء في ليبيا، وتحجيم التدخل الأجنبي فيها، والتدرج رويداً رويداً نحو الحل بالمقاومة الشعبية والمسلحة ضد كل عدو خارجي، أو بالتنازلات الكبرى والتفاهم السياسي المحلي والمرحلي، شرط إخراح كل عدو مشخّص، من الذين مدوا أياديهم الآثمة لقتل الإخوة الليبيين وللنهب والتقسيم، فلا يمكن تصورهم على هذا الطريق، وهم غارقون في التبعية التي عممت الفساد والانتهازية والعجز على مستوى تبني مشاريع ورؤى وطنية بديلة، وخصوصاً في الأبعاد الاقتصادية والاجتماعية غير الممكنة من دون حد متقدم من السيادة الأمنية والعسكرية.

 لا نريد أن نطيل الكلام ونجعله ثرثرة، ولا نريد أن نجعله جمعاً لمعدلات ونسب وأرقام وتصريحات وتخمينات... ولذلك، نوجز في القول بأن ما نراه من خصامات سلطوية موجهة ووصولية مضمرة جوهرياً، هو نتيجة العجز عن الإمساك بزمام الحكم من جهة، وعن فرض سياسات أخرى من جهة أخرى، وما نراه من لغو يومي حول النظام السياسي والنظام الانتخابي والاصطفاف ما وراء الحدود وخطابات البرلمان والحكومة وخطابات الثكنات والرئاسة، لا يقوم على شيء يبنى عليه، ولن يؤدي إلى شيء يبنى عليه. هذا فضلاً عن الظواهر الاحتجاجية الجديدة والأسماء والوجوه الغريبة التي ملأت الفراغ الذي تركه من أفنوا أعمارهم في النضال، وخرجوا أو تراجعوا نتيجة أخطاء قاتلة، أو نتيجة وعي شعبي مدمر، أو مهما يكون من أمور ثالوث التبعية والإرهاب والفساد بثالوث المال والسلاح والإعلام.

لقد جعل نظام الحكم الحالي من البلد حلبة موالين ووكلاء وظواهر نزلت بأدوات وفي سياقات لا يسيطر عليها الشعب بغالبيته، ولا تسيطر عليها الدولة بطبيعتها وبمن فيها وما فيها. هذا النظام يجب أن يرحل برمّته، وعلى أيادي الأحرار الشرفاء المضحين، وإن استوجب الأمر مزيداً من الفرز الحاد جداً بينهم، لسد أبواب التخريب باسم الهوية، أو باسم الحرية، وباسم الزعيم، أو باسم جبهة المقاومة الجيوسياسية.

ليس من المهم أبداً اقتراح لائحة أخرى من الخطط والأشكال والآليات والبرامج، فقد قمنا بذلك، كما قام به غيرنا أكثر من مرة، وإنما المهم أكثر من التخطيط والتنفيذ، صدمة الوجود.

يا سادة، تونس وشعب تونس في مرحلة تهديد استراتيجي دقيق جداً. وإذا استمر الوضع على ما هو عليه، فإن تهديد الوجود، على غرار التصفية السياسية الداخلية، وتصفية الوطن الليبي دولة وجغرافيا، هو تهديد قائم بالقوة.

إننا لا نميل الآن إلى استعراض نظري مطوّل حول من وكيف يعملون على جعل تونس حديقة خلفية أو مجرد ثقب خلفي في باب خلفي، ولا شكّ في أن المقاومة الجيوسياسية هي مقاومة حتى الموت على الوجود والبوصلة والثوابت والمقدرات والجهة والمصير، غير أننا في العاجل القريب، ونحن ندّعي كوننا جنودك يا وطن، وأن دماءنا حدودك، وعقيدتنا نداك، ومدانا أرواحنا وفداك، نرى أنه بات من الضروري على الذين يأخذون الأمور على محمل الجد أن يفعلوا كل ما بوسعهم من دون تأخير، لإلغاء اتفاقية العميل الاستراتيجي مع حلف الناتو، وإقرار قانون يمنع العمل الأجنبي الأمني والعسكري والاستخباري داخل وعلى الحدود التونسية، مع تعريفه تعريفاً دقيقاً يأخذ بعين الاعتبار كل ما هو غير تقليدي في هذا الصدد، ويضع حدوداً دقيقة لأي تعاون أو تبادل أو تنسيق غير عدائي، ضمن رؤية واضحة للعقيدة الأمنية والعسكرية الاستراتيجية للبلاد التونسية.

لا شكَّ في أن ذلك يتطلَّب مقولة "حدّد عدوك"، ويرفدها بأطروحة "فعّل سيادتك واحمِ بلادك". وبذلك، تحمي شعبك وأمتك وتنشد لوطنك: "رفرف علوك".