العزلة النفسية الإسرائيلية والدواء الخليجي
يشكّل التطبيع دواء التخلّص من العزلة النفسية التي يئنّ كيان الاحتلال تحت وطأتها منذ تاريخ زرعه في المنطقة المُغْتَصبة.
غنيّ عن البيان القول إن المنطقة العربية تمرّ بمرحلةٍ حَرِجةٍ تتميّز بظواهر الارتداد والانكماش والبَلْقنة والانكسار بفعل عوامِل داخلية وخارجية مُتداخِلة ومُركَّبة. في ظلّ تراكُم الانكسارات والخيبات أُصيبت نفسيّة المواطن العربي بالإحباط، ورغم ذلك ظلّ مُتشبّثاً بأمل رؤية غدٍ أفضل تُصان فيه كرامته ويُعبّر فيه عن ذاته ويُطلِق العنان لمكبوت طموحاته ومهاراته، وتوّاقاً إلى رؤية تكتّلٍ عربي قوّي يُجابه كُبريات التكتّلات العالمية ويذوِّب الخلافات الجزئية والحسابات الضيِّقة.
من المؤكَّد أن القضية الفلسطينية تبقى أمّ القضايا في الوعي العربي سواء الفردي أو الجماعي، وتستأثر بقلق واهتمام المواطن العربي رغم انبعاث بعض الفتور العابِر، من حينٍ إلى آخر، الذي لا يُبدي بتاتاً ما تُبْطنه الخوالِج والجوارِح والصدور. حقيقة، تبقى كل دولة قُطرية مُطوَّقة ومُكبَّلة بإكراهاتٍ مُعيّنة، ومُنْكَّبة على مشاكلها الداخلية اللامُتناهية، غير أن القضية الفلسطينية تستقرّ دائماً في صُلب قضايا المنطقة العربية وتُعدّ مقياس جسّ نبض شعوبها.
رغم ما حقّقه الكيان الصهيوني من مُكتسباتٍ على الأرض واستدامته لمحاولات فرض سياسة الأمر الواقع، لتقويض الهوية الفلسطينية والعربية بالأراضي المحتلة باتّباع جميع السُبُل وعلى اختلاف بشاعتها من قَتْلٍ واغتيالٍ وتهجيرٍ ومُصادرة المُمتلكات والأراضي، وشراء الذِمَم والتحايُل على الحقائق والمفاهيم، لم ينلْ من مناعة ومُمانعة الشعب الفلسطيني والشعوب العربية، وظلّ منبوذاً معزولاً باعتباره كياناً غريباً أُحْدِثَ في منطقةٍ مُغْتَصبةٍ ولم يرق إلى أبعد من ذلك.
من بين أخطر وأخبث وأنذَل السُبُل التي يسلكها الكيان الصهيوني لرَفْع العزلة النفسية عنه، والذهاب بعيداً في مُخطَّطاته نتحدَّث عن محاولة التطبيع مع الدول العربية والإسلامية لاكتساب الشرعية تحت غطاء تبادُل المصالح الاقتصادية، والتجرّد من الخلافات خدمة لمصلحة الشعوب ككل.
تُرى ما هي خطورة التطبيع على نفسيّة وذهنيّة المواطِن العربي؟ ولماذا الإلحاح على إنجاح محاولات عملية إنزاله منذ عقود؟
لا جُرْم أن واقع البَلْقَنة الذي تعيشه المنطقة العربية ووجود دُعاة المُتاجَرة في قضيّتها الأولى شكَّل جيوب اختراق نسيجها الداخلي، وشجَّع الكيان الصهيوني على البحث عن مداخل توغّل أكثر عُمقاً وأبلغ أثراً خصوصاً وأن الاحتلال المباشر بأساليبه المادية الإجرامية والقمعية لم يحقّق الغرض، لذا وَجَب اتّباع نهج أكثر مرونة وسلاسة يستهدف العقول والنفوس والإدراك.
وهل هناك أخطر من اختطاف المواطن العربي نفسه؟ إنه المنطلق والمُبتغى، إذا تمّ اختطافه، تمّ كل شيء. من هنا يجب التركيز والتنبيه والتحذير من استهداف التطبيع لنفسيّة وذهنيّة المواطن العربي.
في الواقع يُشكّل التطبيع تحوّلاً خطيراً في نوعيّة رؤية المواطن للاحتلال الصهيوني، حيث يفقد حق امتلاك التصوّر الأصلي والسليم للقضية وتتشكّل لديه رؤية جديدة بطريقةٍ سَلِسةٍ ومرحليةٍ، حيث أن الإقبال على التعامُل مع الكيان الغاصِب هو اعتراف ضمني بشرعيّة وجوده ومَنْحه سلطة التحرّك والنشاط والاشتغال والتمدّد ودواء التخلّص من العزلة النفسية التي يئنّ تحت وطأتها منذ تاريخ زرعه في المنطقة المُغْتَصبة. يغدو بذلك الاحتلال في ذهنية المواطن العربي بمثابة الأمر العادي المقبول، ويُلغي تدريجاً فكرة التحرير والاستقلال، فتمحي المصالح الاقتصادية الآنية مصداقية وأهمية المُعطيات التاريخية والجغرافية والثقافية.
نفسياً يمكن تشبيه التطبيع بوَرَمٍ السرطان الذي يتوغّل في الجسم ويُصيب الخلايا ويتكاثر وينتشر ويتمدَّد ويأتي على جهاز المناعة، ويخرِّب تدريجاً مُمانعته فيستسلم له الجسم بأكمله، ويُعلِن الاستسلام والطاعة ما دام الدواء لا فائدة تُرجى منه، وعملية بَتْر أصل انبعاثه وسيرانه أُسْقِطَت بالتقادُم حيث لم تحدث في المراحل الأولى من توغّله.
قياساً على ذلك فالهدف هو:
- الإجهاز على مناعة المواطن العربي وتركيعه طواعية.
- جعل إدراكه مَرِناً مُستجيباً لخدمة المُخطّط الصهيوني.
- الإجهاز على نفسيّته وملئها بالإحباط واليأس وعدم التجرّؤ على التفكير في المقاومة.
- ذهنياً تعبيد الطريق لسلسلةٍ من التنازُلات وقبول الأمر الواقع.
- المضيّ قُدُماً في الحرب السيميائية المُعْلَنة لقلب المفاهيم وتزوير الحقائق وبثّ الفوضى والخَبَل في أنساق التفكير والفَهْم.
- الإجهاز على ثوابت الوجود العربي والمصير المُشترك.
- تحقيق عملية انسلاخ المواطن العربي عن هويّته باعتبار أن القضية الفلسطينية من ثوابت الهوية العربية.
- بثّ التفرِقة وتعميق واقع البَلْقَنة بتنشيط نعرات الأنانية وغرائز الانتهازية والفردانية للإجهاز على طموح الوحدة، والذهاب بعيداً في صَرْف اهتمامات المواطن العربي عن القضية الموحّدة مقابل الانكباب على القضايا القُطرية الضيّقة.
مهما تحدَّثنا وحذَّرنا من خطورة التطبيع مع الكيان الصهيوني، لن نُحيط بجميع تهديداته لعُمق الأثر وتداخُل الأوجه واستحالة الرجوع إلى الوراء، لذلك فالفكرة أصلاً يجب أن تقابَل بالرفض ولا تستحق المُساءلة أو التفاوض بل التدبّر والحَذَر.