السبيل إلى إنقاذ عقلك في أزمان التحوُّلات الكبرى.. والإعلام!
المشكلة تبدأ مع تسارع الأخبار وكثرتها، على نحو يضع الجسد أمام حالة إفراز مستمرّة لا نلتفت إليها غالباً.
أن تخضع لعالم الإعلام "الساخن"، وتحافظ على "برودة" عقلك، هو تَحَدٍّ جِديٌّ في عصر الأخبار المتدفّقة من كل تطبيق وشبكة تواصل وقناة تلفزيونية وموقع. فما بالكم إذا كانت الرسائل الإعلامية تتغذّى، هذه الأيامَ، على أخبار وباء يخضع في كواليسه لحرب تجارية ضارية، وحروب لا تنتهي في أكثر من منطقة في العالم، وفي أشكال متعددة.
لكنّ المدخل للتعامل مع جميع الأحداث المحيطة بنا، يكمن في التمييز بين ما لنا قدرة على التحكّم فيه كأفراد، وما لا طاقة لنا به. من هنا، فإن جُلّ اهتمام البشر، على المستوى الفردي، يجب أن ينصبّ على التكيُّف لا التغيير، كوننا نواجه "أزمات"، لا مشاكل عابرة.
قبل الخوض في الممارسات و"الخِدَع" البسيطة، والتي من شأنها إحداث تغيير كبير في مقاربتنا سَيلَ الأحداث التي تستقبلها عقولنا، وتعاملنا مع هذه الأحداث على أنها سلبية، في المدى المنظور على الأقلّ، لا بدّ من مقدِّمة سريعة نعرّج فيها على علم النَّفْس، باعتباره الميدانَ الحقيقي لتوفير صحة نفسية متَّزنة.
يمكن اختصار جوهر علم النَّفْس، على اختلاف مدارسه وتياراته، في الثالوث الذي تحدَّث عنه الرواقيون قبل الأديان السماوية جميعها: " الأخلاق – الطبيعة – المنطق".
تدعو المدرسة الرواقية إلى تحقيق توازن بين هذه الأقانيم الثلاثة في سبيل العيش كإنسان لائق. وتجدر الإشارة، هنا، إلى أن الفارق الرئيسي بين ما تدعو إليه الرواقية، والفروع العصرية في علم النفس، يكمن في أن أغلبية الاتّجاهات الحديثة في التنمية البشرية والصحة النفسية تبحث في سبل تحقيق السعادة، في حين أن هدف الرواقية هو التكامل مع الطبيعة وعدم الاستغراق في الفرح والحزن، على حد سواء، باعتبار أن المشاعر هي مسألة نسبية عابرة، في حين أن العقل هو ما يستحقّ العناية به.
بهذا المعنى، فإن الاستغراق في تأمُّل طريقة سير قوانين الطبيعة وسُنن الحياة، يعزّز قدرة العقل على تقبُّل كل الأحداث التي نواجهها، ومنها المرض والموت والفقر، كما العافية والولادة والثراء؛ أي أن الإنسان العاقل هو من "يتألّم ويقاوم" Sustine et abstine.
وتحثّ مقولة الرواقيين هذه على القَبول بالقَدَر والمصير، إذ لا جدوى من الرغبة في تغيير نظام الأمور المفروض من جانب القَدَر (أو العناية الإلهية)، فنحن ليس لدينا أيّ سيطرة على المرض، أو على الزمن الذي يَمضي، أو موت الشخص الذي نحبّ. ونحن عاجزون تماماً أمام هذه الآلام والعذابات. وبالتالي، "ليس في وسعنا سوى أن نعاني جرّاءها، بالطريقة الأشد تواضعاً".
لكنّ الوصول إلى هذه الحالة، من التكيّف وقبول المصير، يتطلَّب منا تمارين ذهنية ونفسية، تستند إلى مجاهدة النَّفْس بالدرجة الأولى، بالإضافة إلى ممارسات صغيرة من شأنها إحداث فارق كبير في روتين حياتنا اليومي:
أولاً، الابتعاد، قَدْر الإمكان، عن التعرُّض لدفق الأخبار، سواء أكانت سلبية أم إيجابية. فالأخبار تستنفر مشاعرنا، وتحفّز الهورمونات المتلائمة مع كل حالة نفسية. لكنّ المشكلة تبدأ مع تسارع الأخبار وكثرتها، على نحو يضع الجسد أمام حالة إفراز مستمرّة لا نلتفت إليها غالباً. وبما أن من الصعب على كثيرين تجنُّب التعرض للأخبار نظراً إلى طبيعة القوالب والقنوات (الأدوات) التي نستلم منها المواد الإعلامية، يمكن تقنين هذه المسألة، عبر اختيار مصدر إعلامي واحد نلجأ إليه في وقت زمني محدَّد خلال النهار، لمعرفة ما يجري في العالم بصورة عامة، بعيداً عن الإثارة في العناوين الصحافية وشراسة السَّبق الصحافي. ويُنصَح، في هذا المجال، بالركون إلى وسائل إعلام في دول "هادئة"، أو إلى مراكز دراسات، أو مجلات، لا إلى وسائل إعلام يومية.
ثانياً، الابتعاد عن الناس السلبيين. السعادة حالة مُعْدِية، وكذلك التشاؤم. والعلاقات الانسانية، في مختلف أنواعها، تتأثّر بمضمون الرسالة التي يتبادلها أطراف العلاقة، وبالتالي بنوعية أفكارهم.
الاستماع إلى أسطوانة لا تنتهي من "النقّ" والمصطلحات التي تعكس مشاعر وأفكاراً سلبية، من شأنه، بالتأكيد، التأثيرُ في المستمع. لذا، اختاروا بعناية من تتحدثون معهم، وحاولوا انتقاء من يرفعون قدراتكم الذهنية، ومدى تفكيركم، بدلاً من أولئك الذين يزيدون في منسوب القلق لديكم.
ثالثاً، عِشِ اللحظة!
في أغلب الأحيان، تشبه طريقةُ استقبالنا الأحداث والأخبار حولنا، آليةَ عمل المكنسة الكهربائية، التي "تشفط" كل غبار التوتّر والقلق والحزن السائد في الجو العام المحيط بهذه الأحداث والأخبار. بمعنى آخر، نحن نستنزف قوانا النفسية في القلق من "المصيبة"، لا في التفكير الحقيقي في كيفية التعامل معها. ونحن نستهلك طاقتنا في القلق قبل حينِه في أغلبية الأوقات، ذلك بأن المشهد العام المرافِق للحَدَث، أو الخبر الذي نعتبره سلبياً، يعمي قدرتنا على التمييز بين ما هو واقعي وما هو سيناريو صنعته عقولنا، نتيجة ميلها الطبيعي إلى تفسير الأشياء سلباً، وإعطاء الاستنتاجات السيئة الأولوية على الفرضيات الإيجابية.
مَن يحقِّقْ رقابة ذاتية في هذه المسألة، يستَطِعِ الاكتراث أكثر للَّحظة، بدلاً من الاستغراق في المشاعر السلبية.
رابعاً، فَلسِفِ الواقع! لا معنى للنور من دون ظلام. ولم نكن لنميِّز الأبيض لولا وجود الأسود. وينتج دائماً من الآلم نموٌّ طبيعيّ، سواء فردياً أو جماعياً. مرّ عددٌ من الدول، طوال مئات السنين، في حروب ودمار وتوحُّش، قبل أن يتشكَّل وعي جماعي، مفادُه أن نوعية الحياة أهمُّ من القضايا الضيّقة التي كانوا يتقاتلون لأجلها، وأن ثمنَ الحياة أكبرُ من تكلُفة السكوت عن الفساد والظلم.
خامساً، صَلِّ!
لعلّ أعلى درجات الرضا، بحسب الأديان السماوية، تكمن في القَبول بالأقدار، بغضّ النظر عن نزواتنا ورغباتنا. القَبولُ بالأشياء التي لا يمكننا تغييرها، وامتلاك الشجاعة في تغيير ما يمكننا تغييره، يتطلّبان حكمة للتمييز بين الحالتين! والحكمة تَنتج من عقل بارد، منسجم مع الطبيعة والأخلاق والمنطق.
عودٌ على بَدء، السبيل إلى المحافظة على صحة نفسية، في زمن التحوُّلات الكبرى والإعلام، يكمن في العودة الى الذات.