جمهورية سلفادور دالي

كل ما نعيشه اليوم في لبنان، ينتمي إلى مدرسة دالي ورُفقائه وزملائه من فنّاني "السريالية".

  • لو بحث أيّ فنّان معاصر عن موضوع شديد الفجاجة، تُسعفه
    لو بحث أيّ فنّان معاصر عن موضوع شديد الفجاجة، تُسعفه "اللوحة اللبنانية" حين يجسِّدها بالألوان.

استعان الفنان اللبناني الراحل وجيه نحلة، ذات يوم، بأحد أشهر وأغرب مشاهير الفن التشكيليّ في العالم، سلفادور دالي، ليقترح اسماً وتعريفاً يشبه الجمهورية التي يعيش فيها، في مقهى "السيتي كافيه"، في بيروت، في تسعينيات القرن الماضي، وأمام نخبة من الكُتّاب والأدباء والشعراء وأساتذة الفن والمسرح. قالها، مع ابتسامة توحي بأنه وجد كنزاً: "إنها جمهورية سلفادور دالي، يا أصدقاء". ومَن لا يعرف دالي، فهو فنّان تشكيلي إسباني، يُعتبر أحد أهم فنّاني "المدرسة السريالية". وهذه الأخيرة مدرسة فنية وأدبية وفكرية، تقوم على الغرابة واللامعقول.

كل ما نعيشه اليوم في لبنان، ينتمي إلى مدرسة دالي ورُفقائه وزملائه من فنّاني "السريالية". كمية وافرة من العبث واللامنطق. بلاد مهشَّمة تنهار. دولة تَذوي وتضعف وتتلاشى. سلطة مفكَّكة. مجتمع منقسم، وشعب مقهور طارت مدّخرات أغلبيته، ولم يعد يعرف أين سيرسو مستقبله في هذا البلد الهائج.

لو بحث أيّ فنّان معاصر عن موضوع شديد الفجاجة، تُسعفه "اللوحة اللبنانية" حين يجسِّدها بالألوان. أعلى مراحل الصدمة والنفور، والقفز فوق الواقع، وإرباك المتلقّي. "سريالية خيالية" لن نقع على مثيل لها، في مضمونها وموضوعها والأثر الذي تتركه في الأبصار.

فرادةٌ جعلت النظريات عاجزةً عن اقتراح حلول. لا يمكن التعامل مع الحالة اللبنانية بمنطق الاستفادة من تجارب الشعوب، ذلك بأن الشعوب تعيش في أوطان سَوِيّة، وفيها الحدود المعقولة من التجانس الاجتماعي. فإنْ ثار الشعب على النظامين السياسي والاقتصادي، ففي وسعه إسقاطهما. في لبنان، واحدةٌ من أخطر الإشكاليات التي يواجهها اللبناني، أننا نعيش في اللانظام، واللادولة، واللاوطن. هذه "الصيغة" منذ تأسيسها جعلت كل شيء موقَّتاً. البلد موقَّت على ساعة التسويات الدولية والإقليمية. والنظام موقَّت وَفق ما تحتاج إليه الطوائف. والدولة موقَّتة وفق ما تُمليه الظروف.

نجد في الأدبيات السياسية مصطلحات تمثِّل اقتراحاً جديداً في الفلسفة السياسية. مصطلح "الأمن بالتراضي" مثلاً، و"الديمقراطية التوافقية" أيضاً، وغيرهما من العناوين التي تبدو، حين يتمّ تفكيكها، نقيضاً جوهرياً لفكرة الدولة والوطن. 

الأمن، وقانون الانتخاب، والدولة، والمؤسَّسات، والقضاء، والاقتصاد بالتراضي؟ 

الديموقراطية توافقية؟ وكم تكلفة هذا على البلد والشعب والأجيال والمستقبل؟

هذه الفوضى انعكاس لهذا المسار؛ نتيجةٌ لخيانة فكرة الدولة ومفهوم الوطن منذ اللحظة الأولى للتأسيس. مئة عام من خداع الذات، والتحايُل على الواقع، وليّ عُنُق الحقائق، وتأجيل طرح الأسئلة الحقيقية. 

التاريخ ليس ساكناً، ولا يمكن الاستمرار في هذه الدوّامة. القصائد والغرائز وصناعة الأوهام لم تَعُدْ تكفي. 

مقتضيات التطوُّر، اجتماعياً وديموغرافياً، تطرح نفسها بوضوح، ولم يعد في الإمكان محاصرتها وتحييدها.

 النظام الطائفي لم يعد يمثّل مصالح أغلبية اللبنانيين، ولاسيما الشباب منهم. ويَظهر هذا المؤشِّر من خلال نُدرة فرص العمل، وعدم قدرة النظام على تأمينها في القطاعين العام والخاص.

في أزمنة سابقة، كان النظام يستوعب جُزءاً من مستحِقّي العمل، بينما يهاجر جُزء منهم إلى بلاد الاغتراب. أمّا اليوم، مع ازدياد عدد السكّان، وظروف العالم المستجِدة، والفشل الذي يعانيه النظام سياسياً واقتصادياً، فلم تَعُدْ "سوقُ العمل" و"سوقُ الهجرة" قادرتَين على استيعاب الشباب.

البنى التحتية والخَدَمات صارت متخلِّفة بالمقارنة مع دُوَل المنطقة. والحديثُ عن اقتصاد مزدهر وفُرَص عمل، من دون وجود نظام خدمات وبنية تحتية، حديثٌ أشبه بضَرب من الأوهام.  

الأزماتُ الوافدة من الإقليم والبحر المتوسط و"إسرائيل"، وانفجارُ المشرق العربي ودوله الوطنية، وقائِعُ صُلبةُ لا فرصةَ لتأجيل التعامل معها.

بقَدْر ما تبدو أزماتنا صعبة ومستغرقة في الفوضى والاستحالات، يمكن التعامل معها حين تتوافر الإرادة الوطنية، ويُتَّخَذ القرار.

ترميمُ الصيغة، في شكلها الحالي، مستحيلٌ.

لن يجد اللبنانيون أفضل من هذه اللحظة للقيام بالتحوُّل الكبير، نحو دولة وطنية تُنتج وتُصَنِّع وتَزرَع وتَخترع وتَستثمر في العقول والموارد؛ دولة العدالة والمساواة وتكافؤ الفرص؛ دولة تحترم التعدُّد والغنى ثقافيّاً واجتماعياً، وليست أسيرة الطائفية وما تُنتجه من فساد وزبائنية وإجحاف بحق العدالة ومفهوم المُواطَنة. 

هذه عناصر بديهية في تكوين فكرة الوطن، بحيث يُعيد اللبنانيون تنظيم أولوياتهم، والاستفادةَ من مواردهم، والاستعدادَ للتعامل مع مقتضيات العصر وتحديات المنطقة. 

إنْ لم يَتَّفق اللبنانيون على اتِّخاذ هذا القرار الكبير، قفزاً فوق كل "التقاليد" السياسية اللبنانية المدمِّرة، فإنهم موعودون بإقامة طويلة بخَراب لم يَخطُر في بال كلٍّ من وجيه نحلة وسيلفادور دالي، ولا خَطَرَ حتى في بال أندريه بريتون* نفسه... للأسف!

* أندريه بريتون: أحد منظّري "المذهب السريالي" ومؤسِّسيه، وكاتب بيانه الأول، عام 1924.