الحرب الروسية -الأوكرانية أثرها في الموقف الأورو-أميركي من غزة ولبنان
الصراع حتى الآن يتمثل في محورين مرتبطين، الأول هو محور الحرب الروسية/الأوكرانية، والثاني هو الحرب في الشرق العربي، ولكي تتحقق أهداف محور الحرب الأولى من الضروري الانتصار في الحرب الثانية.
في سنة 1919، صاغ هالفورد ماكيندر فكرته عن "قلب الأرض"، أو "محور الارتكاز"، ساعياً إلى أن تسترشد إستراتيجية الإمبراطورية البريطانية بعمله في حقل الجغرافيا السياسية، وكانت مقولته المأثورة في ورقته الشهيرة: " من يتحكم في شرق أوروبا يسيطر على قلب الأرض؛ ومن يتحكم في قلب الأرض يسيطر على جزيرة العالم؛ ومن يتحكم في جزيرة العالم يسيطر على العالم".
في تعبيره "جزيرة العالم" يشير ماكيندر إلى القارات الثلاث، آسيا وأفريقيا وأوروبا، أما "قلب الأرض"، فهو إشارة إلى روسيا، وهو يصل إلى نتيجة بأن الدولة التي تمتلك القوة في البر والبحر معاً هي التي ستحقق السيادة، ولا يمكن تحقيق هذا الشرط إلا إذا توفرت للدولة كتلة قارية متجانسة منفتحة على المحيطات وقوية بما فيه الكفاية. ولما كانت روسيا وحدها هي التي تمتلك مثل هذه الكتلة الأرضية، فلا بد من منعها من الحصول على منافذ للبحار الحرة، إذا ما أريد الحيلولة بينها وبين السيطرة على العالم.
من الواضح إذاً أن فكرة ماكيندر قد وضعت روسيا، وربما ألمانيا في مركز القوة العالمية، عندما حذّر من احتمالات تحالف روسيا مع ألمانيا، ما يمكنهما من التمدد فوق البلاد الساحلية في الأورال–آسيا فتستعمل موارد قارية هائلة لبناء أسطول، وعندئذ تكون إمبراطورية العالم ظاهرة، على حد قوله.
وربما كانت هذه الأطروحة التي كتبها ماكيندر، والتي انتشرت عقب انتهاء الحرب العالمية الأولى، ويبدو أنها أثارت اهتمام السياسيين البريطانيين، قادرة على تفسير أسباب سعي بريطانيا، ودول الغرب الأوروبي، إلى السيطرة على شرق أوروبا المتاخم لروسيا، ومحاصرة الروس وإفساد علاقتهم بألمانيا. لكنها تشير كذلك إلى أحد أسباب السعي الغربي لدعم النزعات العرقية القادرة على تفتيت هذه المنطقة وإثارة الحروب بين شعوبها.
لكن، من المؤكد كذلك أنها، أي طروحات هالفورد ماكيندر، قد أثارت اهتمام الألمان، فقد التقطها كارل هاوسهوفر في عشرينيات القرن الماضي، ودمج بينها وبين نظرية فريدريك راتزيل ليبنسراوم (المجال الحيوي)، وكان له قدر من التأثير في رؤية أدولف هتلر بشأن الإستراتيجية الكبرى لألمانيا.
لقد سادت هذه النظرية في الفترة ما بين الحربين العالميتين، وتبناها العالم الرأسمالي في مواجهته للاتحاد السوفياتي، وكانت خطواته متسارعة في هذا الشأن، إذ دعم قيام أنظمة فاشية في دول شرق أوروبا حديثة النشأة، وبالنسبة إلى هذه الأنظمة كان انتصار الثورة السوفياتية في روسيا وعداؤها الواضح للصيغة العرقية للقوميات قد بدا وكأنه تهديد قوي لوجود هذه العرقيات، في الوقت الذي كانت البرجوازية تسعى، بموجب مصالحها الخاصة، لتأكيد الهوية العرقية لبلدانها، ما أدى إلى موقف متشدد تجاه الشيوعية والاتحاد السوفياتي، التي فُسرت مبادئها وأهدافها (أي الشيوعية) وكأنها تعيد المنطقة إلى عصر الإمبراطوريات الكبرى.
لكن الأمر لم يتوقف على محاولات إنشاء حواجز من دول شرق أوروبا عرقية وأيديولوجية لمنع الاتصال بين الروس والألمان، بل ودعم الفاشية والنازية في ألمانيا وإيطاليا كذلك، بل تجاوز الأمر إلى المواجهات العسكرية، إذ دعم الغرب الرأسمالي الهجوم البولندي على روسيا سنة 1920 والذي فشل في تحقيق أهدافه ليتحوّل سريعاً إلى حصار سوفياتي للعاصمة البولندية وارسو، وهنا اضطر الغرب إلى التدخل مرة أخرى لإنقاذ البولنديين وفك الحصار عن عاصمتهم.
وفي عام 1925، لجأ الغرب إلى ما يُعرف بـ "حصار الذهب "، لإضعاف الاتحاد السوفياتي الذي تقوده روسيا ومنعه من السيطرة على الشرق الأوروبي، تحت أي عنوان سواء الشيوعية أو القومية السلافية، يقول المؤرخ الروسي القومي نيكولاي ستاريكوف: " في المؤتمر الرابع عشر للحزب الشيوعي الروسي في 1925 تم إقرار التوجه نحو إحداث قفزة سريعة في الإنتاج الصناعي (التصنيع الاشتراكي). وعلى الفور هنا يبدأ الغرب (حصار الذهب).
الغاية من هذا التصريف بسيطة – لا يمكن للاتحاد السوفياتي شراء الآلات والأدوات إلا على حساب خاماته الطبيعية وموارده. سيبقى الذهب كتلة هامدة في أقبية الخزينة، النفط والخشب والحبوب، وخصوصاً الحبوب – هذا ما يريده الغرب مقابل توريد المعدات الصناعية. وهذه المعدات هي الجوهر الأساسي للنهضة الصناعية. يمكننا أن نقيم الأبنية بأنفسنا ولكنها ستكون علباً فارغة من دون المعدات والآلات، فالاقتصاد المنهار والذي كان في داخل البلاد مدمراً عملياً تطلب منتجات صناعية ثقيلة. ولن تنجز شيئاً من دون المعدات الغربية. وسيدفع ثمن التوريدات من مواردنا الطبيعية فهم لا يقبلون الذهب منا ".
كان هدف الغرب هو حدوث مجاعة تؤدي إلى انفجار داخلي وإزاحة ستالين، وقد حدثت المجاعة بالفعل عامي 1932، 1933 في أوكرانيا حيث مات عدد كبير من الناس فيما سمّي بـ"مجاعة الموت"، وبعدها مباشرة، قبل الغرب من البلاشفة النفط والخشب والمعادن الثمينة لينتهي حصار الذهب، لكن النتائج المرجوة لم تتحقق، فقد استمر ستالين واستمرت خططه في إقامة الصناعة والنهوض بالاتحاد السوفياتي محققاً مشروعه.
لا يبدو أن العالم الرأسمالي قد تمكّن من تجاوز نظرية ماكيندر، فالحرب الروسية- الأوكرانية تشير إلى ما تحظى به هذه النظرية من أهمية بالغة حتى الآن، وهي لا تعدو أن تكون تكراراً للحرب السوفياتية- البولندية، وإن اتخذت شكلاً أكثر ضخامة، إذ يلجأ الغرب هذه المرة إلى الجمع بين الهجوم العسكري والحصار الاقتصادي في آن واحد.
منذ تفكك الاتحاد السوفياتي، يسعى الغرب الرأسمالي إلى محاولة تدجين روسيا، وكانت البداية من المشكلة الشيشانية، ومع نهايات القرن العشرين، بدا أن الوضع يتجه إلى استقرار الهيمنة الأميركية، خصوصاً عقب ضم جمهوريات التشيك وهنغاريا وبولندا إلى "الناتو" عام 1999، تلاها ضم سبع دول أخرى في بدايات القرن الجديد، وشهدت كل من جورجيا وأوكرانيا ثورات برتقالية موالية للغرب، لتصل الأمور لاحقاً إلى مرحلة الحرب ضد روسيا، عسكرياً واقتصادياً، مستخدماً أوكرانيا كأداة لتنفيذ مشروعه الذي صار يهدد وجود الكيان الروسي ذاته.
في هذه اللحظة التي يبذل فيها الغرب الرأسمالي جهده لمحاولة إعادة تدجين روسيا مرة أخرى، وهي المحاولة التي لم يكتب لها النجاح الكامل طوال التاريخ، تثير أحداث الشرق العربي منذ 7 أكتوبر 2023 العديد من المخاوف والتوجسات لدى الغرب؛ فالواقع أنه بالرغم من الدعم اللانهائي الذي حظي به الأوكران منذ بداية الحرب الذي وصل إلى حد الاستنزاف للطاقات الأوروبية، فإن الواقع الميداني يميل إلى مصلحة الروس إلى حد كبير، ويبدو من التحركات الروسية أنهم لم يعبأوا كثيراً بالعقوبات الاقتصادية التي وقعت عليهم، ومع اشتعال الموقف في المنطقة العربية، بدأت الأوضاع والمواقف الأوروبية تتغير.
لقد سعى الكيان الصهيوني، بدعم أميركي واضح، لكي تبلغ الحرب في فلسطين ولبنان أعلى مراحل اشتعالها في محاولة للقضاء على أي مقاومة يمكن أن تواجه المسعى الأميركي- الصهيوني للسيطرة على تجارة غاز شرق المتوسط، والتي تشير تقديرات هيئة المسح الجيولوجي الأميركي وشركات التنقيب عن الغاز في شرق المتوسط إلى أن كمية الغاز الموجودة فيه تبلغ ما لا يقل عن 122 تريليون قدم مكعب بقيمة لا تقل عن 700 مليار و3 تريليونات دولار أميركي، وهو ما يعني أن هذه الكمية تلبّي حاجات السوق الأوروبية لمدة 30 عاماً.
ومنذ عام 2009، كانت الأمور تتجه إلى أن تصبح هذه المنطقة مركزاً إقليمياً لتجارة الغاز الطبيعي والكهرباء، خصوصاً بالنسبة إلى كل من مصر وقبرص والكيان الصهيوني بعد الاكتشافات الهائلة للغاز بسواحلها على البحر المتوسط، وبالتالي فقد تم توقيع عدد من اتفاقيات ترسيم الحدود البحرية بين دول شرق المتوسط وكانت آخرها اتفاقية ترسيم الحدود البحرية بين لبنان والكيان الصهيوني سنة 2022.
لقد حاولت الولايات المتحدة السيطرة على هذه المنطقة عبر دعم إقامة تحالفات تحت إشرافها مثل "منتدى غاز شرق المتوسط" الذي أعلن عنه في كانون الثاني/يناير 2019 ويقع مقره الرئيسي في القاهرة، ويضم دول: مصر، إيطاليا، اليونان، قبرص والكيان الصهيوني، كما يحضر اجتماعاته ممثلون عن: السلطة الفلسطينية، الأردن، الاتحاد الأوروبي، البنك الدولي والولايات المتحدة الأميركية.
وبناءً على هذه المعطيات، يسعى الأميركيون إلى تحقيق عدد من الأهداف عبر إشعال الحرب، سواء بين روسيا وأوكرانيا أو في الشرق العربي، والتي من المتوقع أن تشمل لاحقاً حتى سوريا وإيران؛ ولعل أول هذه الأهداف هو إحراق ورقة الطاقة الروسية وإعادة تدجين روسيا وإيقاف أي خطوة لتقدمها نحو أوروبا الشرقية حتى ألمانيا وباقي غرب أوروبا عبر الاحتياج الأوروبي للطاقة، ما يؤهلها لإعادة الصعود مرة أخرى كقوة عظمى؛ أما ثاني الأهداف فهو دفع روسيا إلى فك ارتباطها بكل من إيران والصين، بما يمكّن الأميركيين من إعادة تدجين كلتا الدولتين؛ وأخيراً سقوط أوروبا بشكل كامل تحت التبعية الأميركية.
ولتحقيق هذه الأهداف، من الضروري السيطرة على غاز شرق المتوسط والذي سيعدّ بديلاً، خاضعاً للسيطرة الأميركية، للغاز الروسي، والقضاء على المقاومة في الشرق العربي وإيران.
إن هذه القراءة تؤكد الارتباط القوي بين كل من الحربين، سواء في أوكرانيا أو في الشرق العربي، وهو ما يدفع بعض المحللين إلى التحذير من احتمالية تطور الأوضاع لمرحلة الحرب العالمية، فالحرب الصهيونية الوحشية في الشرق العربي إذاً ليست نتيجة عملية "طوفان الأقصى" التي قامت بها حماس بمشاركة فصائل فلسطينية أخرى بدعم من المقاومة في لبنان واليمن وإيران، وإنما هو مشروع تم التحضير له وإعداد مراحله، وأدت هذه العملية الاستباقية الكبرى إلى فضحه، ولعلّ الدليل الأبرز على صحة هذه القراءة هو إصرار الكيان الصهيوني على أن يتضمن أي اتفاق مع لبنان إلغاء اتفاقية ترسيم الحدود البحرية القائمة بين الطرفين.
أما الموقف الأوروبي، فعلى الرغم من تبعيته للأميركيين، فمن الواضح أن بعض الدول الأوروبية أصبحت تتوجس من نتائج الركض خلف الأميركيين من دون وعي، خصوصاً مع ما تعانيه من أزمة الطاقة، وعدم قدرتها على إيجاد بدائل كافية للغاز الروسي، وبالتالي بدأت بعض الدول الأوروبية كألمانيا وفرنسا تخفف من لهجتها الحماسية في دعم الحرب على روسيا أو دعم الكيان الصهيوني في حربه على غزة ولبنان، فالمقاومة الشرسة للمشروع الأمريكوصهيوني وطول أمد الحربين لا يخدم مصالحها، خصوصاً بعد الخسائر التي تعرضت لها في أفريقيا نتيجة الانقلابات العسكرية (المدعومة من روسيا) المعادية لها ولنفوذها في النيجر ومالي وبوركينا فاسو، وتوجه بعض الدول الأفريقية لتقوية علاقاتها مع الروس والصينيين على حساب العلاقات مع فرنسا وأوروبا كالسنغال.
وفي المقابل، يستمر الموقف البريطاني الداعم بالكامل للحرب على روسيا نتيجة تبنيهم الكامل لنظرية ماكيندر وخشيتهم من النفوذ الروسي في شرق أوروبا، وربما يدعم هذا الموقف البريطاني تحررهم الجزئي من ورقة الغاز الروسي، إذ يعتمد البريطانيون على إنتاجهم من غاز بحر الشمال، كما إن لديهم مصادر أخرى لاستيراد الغاز كالنرويج وأميركا وقطر، لكن المشكلة البريطانية بخصوص الطاقة سوف تتصاعد لاحقاً نتيجة انخفاض إنتاج الغاز المحلي في بحر الشمال، وتأثر الاقتصاد البريطاني بالحربين في أوكرانيا وفلسطين ما دفع الحكومة البريطانية المحافظة إلى فرض ضرائب مؤقتة على أرباح النفط والغاز، وهو ما ساهم في زيادة انخفاض إنتاج بحر الشمال إلى 13% هذا العام، ومع عزم الحكومة العمالية رفع هذه الضرائب بصورة أكبر لسد الفجوة النقدية فمن المتوقع أن تنخفض الاستثمارات في النفط والغاز إلى 80 % خلال الأعوام الخمسة المقبلة، الأمر الذي قد يجبر بريطانيا لاحقاً على اللجوء إلى المنطق الفرنسي والألماني نفسه.
إذاً، فالصراع حتى الآن يتمثل في محورين مرتبطين، الأول هو محور الحرب الروسية/الأوكرانية، والثاني هو الحرب في الشرق العربي، ولكي تتحقق أهداف محور الحرب الأولى من الضروري الانتصار في الحرب الثانية والقضاء بشكل كامل على كل مقاومة في الشرق العربي وغرب آسيا عموماً، إلا أن الفشل الواضح للخطط الأميركية في أوكرانيا، وصمود المقاومة حتى الآن وتزايد الخسائر في الجانب الصهيوني وتدخل أطراف مقاومة عربية في الصراع ربما يدفع الجانب الأمريكوصهيوني إلى محاولة نقل الصراع إلى أماكن أخرى، وخصوصاً في البحر الأحمر أو الخليج العربي، أو إشعال مواجهات داخلية في الدول المقاومة سواء إيران، لبنان، اليمن أو العراق، بهدف تخفيف الأعباء عن الصهاينة، والضغط على هذه القوى من أجل تقديم تنازلات تمنح الحياة لهذا المشروع، وبالتالي فمن العبث أن نتوقع أي نية أميركية أو صهيونية لإيقاف الحرب في هذا التوقيت ومن دون تحقيق أي هدف من أهدافها، وإنما محاولة جر المواجهات إلى ميادين أخرى باستخدام أساليب مختلفة.
ويبقى التساؤل هنا حول الدور الصيني ونفوذه المتزايد جداً في أفريقيا، والمصحوب بوجود روسي وإيراني مكثف، ما يزيد من احتمالات أن يتحوّل التسابق إليها في حال بلغت الأمور مرحلة الاختناق في محوري الصراع القائمين حالياً، حيث ستمثل إعادة صياغة الأوضاع فيها طوق النجاة الوحيد لكلا الطرفين.