الاستخدام التربوي للذاكِرة والتاريخ

لا يجب أن تختلف الأحزاب السياسية مهما تباعدت في مشاريعها وشعاراتها عن الدعوة إلى تعليم الأجيال الإخلاص للذاكِرة والتاريخ الذي تنتمي إليه.

  • الاستخدام التربوي للذاكِرة والتاريخ
    المدارس التونسية تعلّق الدروس لمدة 20 دقيقة تضامناً مع الفلسطينيين الذين يتعرَّضون للاعتداءات الإسرائيلية في غزَّة

 

في 22 تشرين الثاني/ نوفمبر2019 نقلت بعض وسائل الإعلام المحترمة التي تقف خلف القضايا العادِلة خبراً مفاده "أن المدارس التونسية قامت بتعليق الدروس 20 دقيقة بهدف التضامُن مع الفلسطينيين الذين يتعرَّضون للاعتداءات الإسرائيلية في غزَّة، ولتعميق الوعي في صفوف الناشئين بعدالة القضية الفلسطينية ".

وفي اليوم التالي ردَّت المدارس الفلسطينية على هذه المُبادرة الإنسانية البنَّاءة بالمثل، فرفعت العَلَم التونسي. من الواضح أن هذه المُبادرة تعكس خياراً سياسياً وتشير إلى انطباعٍ مُعيَّنٍ أعاد إحياءه السيّد قيس سعيد في المجتمع التونسي بعد انتخابه. ولكن المهم أيضاً في هذه المُبادرة هو أن إنجازه استند بشكل أساسي إلى المؤسَّسات والفعاليات التربوية وهو شيء يستحقّ التأمّل والمناقشة في ضوء ما يفرض على الأجيال العربية اليوم في جميع البلدان من تلاعُب يمسّ ذاكِرتها وتاريخها ومستقبلها المُشتَرك. 

يشير مجتمع المؤرِّخين إلى العلاقة بين السياسة والتربية بأنها علاقة محورية وضرورية ولكنها غير مُتكافِئة من خلال التأكيد بشكلٍ خاص على أن أي مشروع تربية وطني لا يمكن أن يمضي نحو أهدافه النبيلة من دون أن يأخذ بالحسبان القواعد والقِيَم الأساسية التي تنتجها الطبقات السياسية وتدافع عنها في عصر مُعيَّن بإسم الإمبراطورية، الأمّة أو الجمهورية.  

بطبيعة الحال لا يجب أن تختلف الأحزاب السياسية مهما تباعدت في مشاريعها وشعاراتها عن الدعوة إلى تعليم الأجيال الإخلاص للذاكِرة والتاريخ الذي تنتمي إليه. 

هذه إحدى التوصيات التي أكَّدت عليها في الواقع ندوة علمية نُظِّمَت في فرنسا- مدينة أميان نهاية عام 2016 حول "اليسار الفرنسي والتربية" والتي كان لي شرف المشاركة في أعمال تنظيمها مع فريقٍ من الباحثين المُهتّمين بتاريخ التربية والتعليم. 

وأما نحن فنقول في الكتب المدرسية إن أطفالنا يجب أن يعرفوا كيفيّة القراءة والكتابة والحساب والتعبير عن أنفسهم ومعرفة تاريخهم وتاريخ العالم، ولكن من دون أن يقولوا لماذا على وجه الخصوص في الوقائع الماضية التي يتمّ عرضها عليهم.  

يتمّ التذرّع دائماً من قِبَل السلطات التربوية بتحصيل "المعرفة" والتي تتمّ خصخصتها غالباً وبشكلٍ منهجي إلى مجموعةٍ من المعلومات النظرية والمُجرَّدة ووضعها في مُقرَّرات مُنفصِلة، من دون الأخذ في الاعتبار أهمية ترابُط المعارف ودور المدرسة كمؤسَّسةٍ لا تهدف فقط إلى "التحصيل" ولكن أيضاً إلى بناء القدرة على التحليل والتركيب في القضايا والوقائع التاريخية والمُعاصِرة وصلة الحقيقة بينها. مما لا شك فيه أنه بهذا النهج التربوي والذي لم يهتم أحد بإصلاحه على مستوى وزارة التربية والتعليم في أغلب الدول العربية، تمكَّنت عقائد المُتطرِّفين من النفاذ إلى عقول الأجيال وبناء التنظيمات الراديكالية التي اجتمعت على تدمير الوجدان الجماعي للأجيال العربية والعودة بها إلى الوراء إلى الخُرافات والأصولية.  

أعتقد أنه تحت ضغط هذا السياق المُعقَّد الذي نمرّ به وتعقّد الصراع مع التطرّف والصهيونية، لا بد من تعزيز  التواصُل بين السياسيين من جهةٍ ورجال التربية والتعليم والطلبة وأولياء الأمور من جهةٍ أخرى. ومن المنطقي أيضاً، عندما نرى أن الانتماء إلى الذاكِرة والوطن، يتذبذب التفكير من جديد في المدرسة التي لها دور حيوي في تدريس التاريخ ونقل الذاكِرة والعمل على دعمها كمؤسَّسةٍ وطنيةٍ مقاوِمةٍ بالمعنى النبيل للكلمة، لأنه من المألوف القول إن المدرسة ليست محلاً لبيع الكتب، إنها كما دافع عنها فيلسوفها ساطِع الحصري الذي قضى حياته في تجديد الروح القومية العربية كعاملٍ أصيل في تأسيس الدول والقوميات ورسوخها واستمرارها وتحرير العقول من شوائب التاريخ. 

التاريخ لا ينفصل عن الذاكِرة التي لم تتم إعادة بنائها بعد ولا يمكن أن تتجاهل وجهات النظر المختلفة التي تُعبِّر عن نفسها من تلقاء نفسها، ولكن أيضاً من خلفيّة اللاوعي لهذه "الثقافة الاستعمارية" التي تنتشر حتى الأجيال اللاحقة، بما في ذلك المؤرّخ.

كيف يمكننا الانخراط في هذا المسار في ظلّ الصفوف المُكتظَّة والبرامج الضخمة؟ وتحت ضغط وسائل التعليم والتثقيف الموازية للمدرسة من وسائل إعلام ومواقع الكترونية ووسائل تواصل اجتماعي مليئة بالمُغالطات والتحيّزات؟

إن السياق الثقافي الذي نعيش فيه حالياً يبدو أكثر تعقيداً في ظلّ هذا التنوّع في مصادر التربية والتثقيف غير الرسمية في سياقٍ اقتصادي صعب يخلق توتّرات في الهوية داخل كل مجموعة ثقافية، ما قد يؤدِّي بالبعض إلى الشعوبية وإلى التطرّف. 

 تركِّز التوتّرات بشكلٍ أساسي على الدين والمُعتقدات والعلمانية. وبالتالي لا يمكن للمدرسة أن تتماشى مع عالمٍ غير عادل يقتحم المدرسة لفرض اهتماماتها وعواطفها وأزيائها. 

ومع ذلك، إذا كانت هذه العملية ترافق عموماً تطوّرات المجتمع نفسه، فإن السؤال هو معرفة ما هو نوع التعبير الذي يمكن أو يجب أن يوضَع بين عمل الأكاديميين ومسائل المجتمع؟