"صبح الشام" وظلال الهندسة العكسية
اليوم يعود المخطط القديم الجديد إلى الواجهة، ولكن من خلال الأطراف الأصيلة (الولايات المتحدة و"إسرائيل")، وليست الوكيلة التي غالباً ما يتمحور دورها حول التمويل والإشغال وتحوير الأنظار عن الأهداف الحقيقية.
يكثر مؤخراً الحديث عن توغّل إسرائيلي داخل الأراضي السورية، وهو أمر يحتاج إلى التدقيق تجنّباً للشائعات التي تحاول إطلاقها جهات متعددة. يترافق ذلك مع تحرّكات واستعدادت لغرفة عمليات "الفتح المبين" التي تضمّ الفصيل المسلح المعروف بـ"هيئة تحرير الشام" في إدلب لإطلاق عمل عسكري من شأنه أن يغيّر خطوط تماس العام 2020، علّها تتمكّن من السيطرة على مدينة حلب من جديد.
المؤشران الاثنان أعلاه اكتسبا أهمية بالغة مع التصريحات التركية التي رافقتهما من رأس الهرم، حيث حذر الرئيس التركي رجب طيب إردوغان من تحرّك إسرائيلي نحو دمشق، معتبراً أن السيطرة الإسرائيلية على العاصمة السورية من شأنها أن تغيّر الخارطة الجيوسياسية للبلاد، الأمر الذي قد يمتد إلى شمالي البلاد وبالتالي ما قد يهدّد الأمن القومي التركي.
أعاد الرئيس التركي تحذيراته غير مرّة، ما استدعى جلسة برلمانية سرية، قدّم خلالها كل من وزير الخارجية والدفاع هاكان فيدان ويشار غولر معلومات للنواب حول خلفيّة مخاوف الرئيس التركي، في حين لم ولن يتمّ الكشف عما دار في الجلسة لمدة تصل إلى عشر سنوات، تحت مسمى أسرار أمن الدولة.
بعد عام على عملية "طوفان الأقصى" بدأ المشهد يتغيّر بشكل دراماتيكي في المنطقة، عادت الأحلام القديمة المبيّتة لتظهر من جديد. من جديد عدنا لنسمع مسؤولي "إسرائيل" يتحدّثون علانية ومن دون مواربة عن "إسرائيل الكبرى" التي يحلمون بها ـــــ وزير ماليّتها يريد ضمّ لبنان والعراق والأردن والسعودية وحتى مصر إلى كيانه المصطنع، ويرى أن حدود القدس تصل إلى دمشق ـــــ ومن جديد عاد حلم الشرق الأوسط الجديد يدغدغ البعض وعلى رأسهم الولايات المتحدة وذلك من بوابة غزة ولبنان، ما من شأنه أن يضع المنطقة برمّتها على فوهة بركان، فالخرائط الجديدة عادةً ما ترسم بالدم الغزير.
في الأفق ما يشبه ما عايشناه في العام 2011، قصف إعلامي استباقي وإدارة للرأي العام (بعضه بشكل واضح وآخر بشكل خبيث سيصبح أكثر وضوحاً مع الأيام) لما يحضّر وما يُراد أن يكون على أرض الواقع، والمواقف والتحركات الميدانية تثبت النوايا المبيّتة لا العكس.
في كتاب "صبح الشام" لوزير الخارجية الراحل ـــــ ليس منذ زمن بعيد ـــــ حسين أمير عبد اللهيان ما يصلح ليومنا هذا. إنها "الهندسة العكسية".
تلك الاستراتيجية التي أخذتها على عاتقها كلّ من الولايات المتحدة و"إسرائيل" والسعودية كما يقول أمير عبد اللهيان لوقف تمدّد ما وصفته طهران آنذاك بـ"الصحوة الإسلامية" ولضرب محور المقاومة.
يقول أمير عبد اللهيان في مذكّراته بأن المرحلة الأولى من "الهندسة العكسية"، كانت محاولة الإخلال بالأمن في إيران، وما أشبه اليوم بالأمس، يريدون "قطع الرأس" أو ما يعرف أميركياً بسياسة decapitation policy.
فأعادوا طرح ادعاءاتهم على الملأ من توجّهٍ إيرانيٍ نحو إنتاج سلاح نووي، ولذلك "بدأوا بالبحث الدقيق عن استهداف المراكز النووية والذرية الإيرانية". لم يُوضع البحث قيد التنفيذ فالعواقب والتبعات لم تكن لتتحمّلها لا الولايات المتحدة ولا من يقفون معها من نافثي السم. أما اليوم فتنتظر دول المنطقة والعالم طبيعية وحجم الردّ الإسرائيلي على الرد الإيراني يوم الأول من أكتوبر. التصريحات المعلنة – وغالباً ما تكون مضللة - تظهر بأن الرد الإسرائيلي المنسّق مع الإدارة الأميركية سيبقى في دائرة الاحتواء، ولكن مع سماعنا رضى وزراء إسرائيليين متطرفيين على خطة الرد ففي ذلك ما يثير القلق المشروع.
بالعودة إلى كتاب "صبح الشام" يقول الراحل أمير عبد اللهيان "ولأنّ إيران كانت بعيدة المنال، وقع الاختيار على سوريا على اعتبارها جبهة إسناد خلفيّة لمحور المقاومة". وهنا يشرح بأن ما حصل في ذلك الوقت ليس بثورة على الإطلاق. وينقل عما يقوله الأشخاص المشتغلون بالأعمال الأمنية والدراسات الاستخباراتية في توضيحهم لحركة الثورات "إن الثورة التي تبدأ انطلاقاً من الحدود ليست بثورة، لذلك يجب البحث عمن في الجهة الأخرى من الحدود، ومعرفة العناصر التي دخلت البلد من الخارج والتي أوجدت الاضطرابات".
في ذلك العام المشؤوم (2011) لم تكن الديمقراطية هي المبتغى الأميركي في سوريا بخلاف مطالبات بعض السوريين الوطنيين الصادقين، وإنما قطع الطريق على الإمداد اللوجستي والعسكري للمقاومة المتقدمة. غزة ولبنان كانتا في صلب هيجان تلك السنوات، حروب واعتداءات وتفجيرات وتهديد للحدود. واليوم وبعد عام على عملية "طوفان الأقصى" وبعد أسابيع من العدوان المكثّف والموسّع على لبنان، ها هي الأنظار تتجه الى سوريا.
دفق من المعلومات غير المؤكدة كتلك التي نشرتها صحيفة هآرتس العبرية الشهر الماضي عن قدوم 40 ألف مقاتل من العراق واليمن إلى سوريا وتمركزهم قرب مرتفعات الجولان. أما الفعل فهو عدوان متكرر على سوريا وقصف وشلل لمنطقة المصنع الشريان الحيوي بين البلدين سوريا ولبنان.
باختصار، اليوم يعود المخطط القديم الجديد إلى الواجهة، ولكن من خلال الأطراف الأصيلة (الولايات المتحدة و"إسرائيل")، وليست الوكيلة التي غالباً ما يتمحور دورها حول التمويل والإشغال وتحوير الأنظار عن الأهداف الحقيقية.
ولكن أيضاً في سوريا لاعبون كثر، وهذا من المفترض أن يُعقّد الخطط الأميركية الإسرائيلية لا العكس.
ننتظر ونرى.