"إسرائيل" تحاصر الرواية: عزل غزة عن العالم
الحصار الإعلامي الذي تفرضه "إسرائيل" على غزة يتخطى كونه محاولة لحجب الحقائق، بل هو جزء من استراتيجية أوسع تهدف إلى تزييف الواقع وإخفاء الجرائم التي تُرتكب بحق الفلسطينيين.
-
تعنّت إسرائيلي يُشرعن التعتيم... ومساعي لتلوين الحقائق.
بانقضاء أيام عيد الأضحى المبارك، يكون قد مرّ 613 يوماً على بدء العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، والذي أسفر عن استشهاد أكثر من 54 ألف فلسطيني بخلاف 126 ألف جريح؛ ورغم انقضاء تلك المدة، لا تزال سلطات الاحتلال متشبثة بقرارها الذي يمنع المراسلين الأجانب التابعين لوكالات دولية من الوصول إلى ساحات الحرب ورصد الأوضاع الإنسانية الكارثية التي يعيش فيها الغزيّون.
رفضت حكومة بنيامين نتنياهو منح المراسلين الدوليين التصاريح اللازمة في الأسابيع الأولى من اندلاع المعارك بذريعة عدم توافر الأوضاع الأمنية الملائمة لعمل الإعلاميين، رغم أن عمل الإعلامي بطبيعته يتواءم مع هذا النوع من المخاطر؛ لكنّ المفارقة أن "جيش" الاحتلال بات يتحكّم في قطاع غزة اليوم بشكل واسع، والمفترض أنه قادر على ضمان أمن المراسلين، ومع ذلك لا يزال قرار الرفض معمولاً به، ولا تتمكن العديد من الوكالات الدولية من رصد الصورة كاملة.
تحظى الحرب الدائرة في قطاع غزة باهتمامٍ واسع، لا في منطقة الشرق الأوسط وحدها، بل على مستوى العالم أجمع، والأخبار المتعلقة بها تحتل صدارة النشرات التي تبثها أغلب المؤسسات الإعلامية، وهذا يُجبر العاملين في مجال الصحافة والإعلام على إعداد تقارير مكثفة، يُفترض أن تُقدّم للمتلقي مادة جديدة ومتنوعة تجعله على اطّلاع على مجريات الحرب، وبالتالي، تلجأ وسائل الإعلام الممنوع على مراسليها دخول غزة إلى طواقم من الصحافيين المحليين من أبناء القطاع.
يقوم المتعاونون من الصحافيين الغزيين بتغطية المستجدات وإرسالها للمسؤولين عن التحرير، ومن ثمّ يجري إعداد التحقيقات والتقارير التلفزيونية، لكن هذا العمل أصبح شاقاً على الأطراف كافة، إذ يواجه الصحافيون المحليون أخطار الحرب والموت وتقييد الوصول، فهؤلاء قد أضناهم النزوح المتكرر والجوع المستمر، كما أنهم غير قادرين على الوصول إلى كل الأماكن، بل يُرغَمون على التحرك في نطاق محدود، وهذا في المجمل قد يتسبب في افتقار المواد المنشورة للاحترافية اللازمة.
في الواقع، فإن العدد الأكبر من الصحافيين الموجودين داخل القطاع، والذين يؤدّون دورهم كمراسلين، إما استشهدوا أو أصيبوا بجروح أو فقدوا منازلهم وعائلاتهم، وكل ذلك يقيّد العمل الإعلامي، ويجعل مهمة الصحافي العامل مع وسيلة إعلامية خارج غزة عسيرة للغاية. رغم ذلك، تتشبث "تل أبيب" بمواقفها بهدف حجب الحقائق عن العالم، ضاربة عرض الحائط بمناشدات الصحافيين الدوليين، التي كان آخرها طلب وقعت عليه 130 وسيلة إعلام ومنظمة تعنى بالدفاع عن الإعلاميين.
تعنّت إسرائيلي يُشرعن التعتيم... ومساعي لتلوين الحقائق
على ذِكر الموقف المُتعنّت لحكومة الاحتلال، تجدر الإشارة إلى الالتماس المقدم إلى المحكمة العليا الإسرائيلية في نهاية عام 2023، بواسطة جمعية الصحافة الأجنبية، التي تمثل المراسلين العاملين في "إسرائيل" والأراضي الفلسطينية. وكان الالتماس يسعى لإدانة كبار قادة "الجيش" الإسرائيلي الرافضين لدخول الإعلاميين إلى غزة، لكن المحكمة ردّت على الالتماس بالرفض القاطع، مكررةً المبررات الواهية المتعلقة بـ"المخاطر الأمنية".
اللافت أيضاً في الموقف الإسرائيلي، أن "تل أبيب" لا تريد، فقط، منع العالم من رؤية حقيقة ما يجري على الأراضي الفلسطينية، بل تريد التحكّم فيما يُعرَض على صفحات الجرائد وعبر الشاشات، لذا فإن وزير الإعلام الإسرائيلي شلومو كارهي، وفي إطار ردّه على الصحافيين الدوليين، قال أن الرفض ليس مطلقاً، وإنه يمكن السماح بجولات للصحافيين، لكن الشرط هو أن تكون "برفقة الجيش الإسرائيلي، والذي سيكون مسؤولاً عن تعريفهم بالأوضاع في غزة".
الحقيقة أن قوات الاحتلال لطالما مارست مواقف مشابهة، أبرزها خلال الانتفاضة الفلسطينية الثانية (2000 - 2005)، إذ جرى منع وصول الصحافيين الأجانب إلى مناطق الاشتباك، واستهدف العديد من الصحافيين المحليين والدوليين بالرصاص الحي وقنابل الغاز.
التلميذ الإسرائيلي على درب معلّمه الأميركي
ما يحدث اليوم في غزة ليس الحالة الأولى من نوعها، إذ شهد التاريخ الحديث عدة حالات مشابهة تم فيها فرض حصار إعلامي لتغييب الحقيقة، وكان البيت الأبيض سبّاقاً في هذا المضمار، إذ سعت الإدارات الأميركية المتعاقبة لإخفاء العديد من الحقائق، ومنع العالم من الاطلاع على جرائمها التي ارتكبتها بهدف تعزيز هيمنتها في العديد من المناطق بالعالم.
حرب فيتنام (1955 - 1975): في بداية الحرب كان الإعلاميون قادرين على الوصول إلى جبهات القتال بدرجة مقبولة، إلا أن نشر صور مروعة مثل "فتاة النابالم" ونقل أخبار مذبحة ماي لاي، جعل الحكومة الأميركية تشدد القيود على العمل الإعلامي، لأن نقل مثل تلك الوقائع جعل أصحاب الضمائر حول العالم يصطفون ضد التدخل الأميركي في فيتنام.
حرب العراق (2003): خلال الغزو الأميركي للعراق، قامت واشنطن بفرض قيود صارمة على حركة الصحافيين، وأنشأت ما عُرف بـ"الصحافيين المضمّنين" (Embedded Journalists) الذين كانوا يرافقون الجيش الأميركي، ما أدى إلى نشر تقارير متحيّزة لوجهة النظر الأميركية، التي كانت تزعم أن الهدف من وراء العملية هو "نشر الديمقراطية".
سجن غوانتانامو: منعت السلطات الأميركية لعقود وسائل الإعلام من تغطية ما يجري داخل سجن غوانتانامو الشهير، إذ تم منع التصوير أو إجراء مقابلات مباشرة مع المعتقلين، وهو ما جعل الجرائم المرتكبة هناك تبقى طيّ الكتمان لفترات طويلة، حتى وصلت الأمور إلى حد لا يُجدي معه الحجب.
سجن أبو غريب (2003 - 2004): رغم الجرائم التي كشفت عنها تسريبات صور جنود أميركيين وهم يعذبون السجناء العراقيين، إلّا أن البنتاغون حاول إبقاء الانتهاكات سراً، ولم يُسمح لوسائل الإعلام بالوصول أو التحقيق في الحادث حتى بعد انكشافه.
التحدي المستمر: أن تبقى فلسطين في الصدارة
إن الحصار الإعلامي الذي تفرضه "إسرائيل" على غزة يتخطى كونه محاولة لحجب الحقائق، بل هو جزء من استراتيجية أوسع تهدف إلى تزييف الواقع وإخفاء الجرائم التي تُرتكب بحق الفلسطينيين، ومع استمرار هذا التعتيم، يكون العرب خارج فلسطين مطالبين بدور أوسع لرفع الوعي الدولي عامةً بما يجري داخل قطاع غزة.
تريد "تل أبيب" أن تُنسى فلسطين، فلا يذكرها أهلها من العرب، ولا يتضامن معها أحدٌ في العالم، من هنا تأتي المجهودات الإسرائيلية لفرض الحصار الإعلامي أو تشويه الحقائق، فالهدف النهائي هو تحويل القضية الفلسطينية إلى ذكرى باهتة في وجدان العالم، ما يجعلها أكثر قابلية للنسيان والتجاهل مع مرور الوقت.
لقد كان أهم مكسب لـ"طوفان الأقصى" هو إعادة طرح القضية الفلسطينية كقضية أولى في العالم، كما قال الشهيد الأسمى، السيد حسن نصر الله. لذا تسعى حكومة نتنياهو إلى سلب هذا المكسب من الفلسطينيين، عبر حصار حضور القضية الفلسطينية في الإعلام الدولي، لكنّ التجارب التاريخية تُثبت أنه لا يمكن حجب الحقيقة إلى الأبد؛ وفي النهاية، لا بد أن ينتصر الفلسطينيون لأنفسهم وقضيتهم.