مؤتمر "الأمن القومي الإسرائيلي": لا رؤية، لا حلّ، لا نصر

"إسرائيل" عالقة في حلقة مفرغة من التوتر والتصعيد، بينما تتراكم التحدّيات الإقليمية، وتفقد "تل أبيب" تدريجياً قدرتها على فرض سرديّتها التقليدية في ظل عالم آخذ في التغيّر.

0:00
  •  الأزمة الإسرائيلية تتجاوز مسألة
    الأزمة الإسرائيلية تتجاوز مسألة "حلّ غزة" بمعناها الضيّق.

في ظلّ العجز المتواصل عن تحقيق نصر عسكري حاسم في غزة، تتجه "إسرائيل" نحو خيارات أكثر تطرّفاً، لا تعكس فقط انسداد الأفق السياسي والعسكري، بل تكشف عمّا يشبه إجماعاً ضمنياً داخل النخبة الإسرائيلية على التعامل مع غزة كعبء وجودي يجب التخلّص منه، لكن من دون الاتفاق حول كيف يتمّ ذلك.

أحد هذه الخيارات يتمثّل في إعادة احتلال قطاع غزة بالكامل وتهجير سكانه نحو سيناء أو الخارج، مع فرض حكم عسكري دائم على من يتبقّى.

وهو تصوّر يتجاوز حتى منطق الردع، ليحاكي نماذج التطهير العرقي المعروفة في القرن العشرين. أما الخيار الثاني، فهو استمرار الحرب إلى ما لا نهاية،  الأمر الذي يشير إليه الرفض الإسرائيلي لإعطاء أيّ ضمانات على أيّ هدنة تؤدّي لوقف الحرب، كون الحرب وسيلة لإبقاء غزة في حالة إنهاك دائم، من دون الحاجة إلى إدارتها فعلياً، أو تقديم أيّ أفق سياسي للفلسطينيين.

لكنّ الأزمة الإسرائيلية تتجاوز مسألة "حلّ غزة" بمعناها الضيّق، لتطال إشكالية استراتيجية أوسع في التعامل مع الصراع الفلسطيني الإسرائيلي. فقد أثبتت التحوّلات الإقليمية والدولية المتسارعة، ولا سيما ما بعد 7 أكتوبر، أنّ كثيراً من المسلّمات التي بنت عليها "إسرائيل" سياساتها الأمنية والدبلوماسية باتت موضع شكّ، وأنّ الحاجة لإعادة تقييم شاملة لم تعد ترفاً فكرياً بل ضرورة وجودية.

هذه الإشكالية كانت حاضرة بقوة في مؤتمر معهد الأمن القومي الإسرائيلي لعام 2025، وتحديداً في ورشة العمل المخصصة لمستقبل الصراع مع الفلسطينيين. هناك، لم يعد الخلاف بين المتحدّثين يدور حول "كيفية الحلّ"، بل حول "هل هناك حلّ أصلاً؟" فقد أقرّ العديد من الباحثين والمسؤولين السابقين بأنّ "إسرائيل" لا تملك رؤية استراتيجية طويلة الأمد، وتعتمد بشكل متزايد على سياسات ردّ الفعل، في غياب أيّ مشروع سياسي متكامل لإدارة الصراع أو إنهائه.

نتائج استطلاع الرأي الذي قُدّم في الورشة أظهرت انقساماً داخلياً حادّاً، وما يلفت النظر هو التراجع الكبير في دعم حلّ الدولتين، حتى بصيغته الإقليمية، مقابل تصاعد التأييد لمفهوم "الانفصال الأحادي"، الذي نال دعماً نسبته 30%. وهو ما يعكس نزعة إسرائيلية متزايدة نحو تقليل المخاطر بدلاً من خوض مغامرة التسوية السياسية.

في المقابل، برزت ثلاث مدارس فكرية داخل النقاش الإسرائيلي عكستها ورشة النقاش، لكلّ منها مقاربتها الخاصة:

أولاً، نموذج "جرشون كوهين" الباحث المختص بالشأن الفلسطيني، الذي يمثّل مدرسة "إدارة الصراع لا حلّه". يُبقي على السلطة الفلسطينية باعتبارها مصلحة أمنية إسرائيلية، من دون أيّ وهم سياسي بإمكانية التوصّل إلى سلام نهائي. هذه الرؤية تنسجم مع المبدأ الرابيني "دولة يهودية مع غالبية يهودية"، وتعتمد على الفصل الديموغرافي، والاستيطان كأداة استراتيجية لا مجرّد وسيلة ضغط.

ثانياً، نموذج "ليمور يارون" إحدى خبراء معهد الأمن القومي، التي تُعدّ استثناءً تقدّمياً، حيث تطرح صاحبة الرؤية تصوّراً لشراكة متبادلة، وإدارة دولية للضفة وغزة، إدراكاً منها أن "إسرائيل" لم تعد قادرة وحدها على إدارة الصراع أو حلّه. ليمور ترى أنّ السلام لم يعد خياراً مثالياً بل ضرورة استراتيجية، لكنها تدرك صعوبة تسويقه في المجتمع الإسرائيلي اليوم.

ثالثاً، نموذج "يارون ديكل" ــــــــــ الباحث الكبير في المعهد ــــــــــ الذي يعكس موقفاً قلقاً من خطر "الدولة ثنائية القومية"، ويدعو إلى انفصال حاسم حفاظاً على يهودية "الدولة". يرى أنّ الحلّ لا يكمن في اتفاق نهائي بقدر ما هو في إعادة ترسيم للواقع بما يضمن الحد الأدنى من الأمن والديموغرافيا.

أما على مستوى المواقف من المبادرات الخارجية، فقد بدا التردّد الإسرائيلي واضحاً تجاه خطة ترامب للسلام، إذ اعتبرها البعض قفزة في التفكير، فيما رآها آخرون مبهمة ومحفوفة بالمخاطر. في المقابل، تُظهر المواقف من المطالب السعودية – خصوصاً ما يتعلّق بالقدس وحدود 1967 – محدودية قدرة "إسرائيل" على التكيّف مع متطلّبات التطبيع الكامل.

كما طُرحت في الورشة الخطة المصرية لإدارة غزة عبر حكومة تكنوقراط، تعكس توجّهاً إقليمياً لعزل حماس من دون الدخول في مواجهة مباشرة. إلّا أنّ الخطة تفتقر إلى إجماع فلسطيني ودولي، وتبدو أقرب إلى مسكّن موضعي وليس حلاً مستداماً.

تكشف هذه النقاشات جميعاً عن معضلة إسرائيلية حقيقية: لا توجد أغلبية تؤمن بالسلام كخيار، ولا إجماع على استراتيجية أمنية قابلة للاستدامة. في هذا الفراغ، تتحوّل "الإدارة المؤقتة" للصراع إلى استراتيجية دائمة، وتبقى "إسرائيل" عالقة في حلقة مفرغة من التوتر والتصعيد، بينما تتراكم التحدّيات الإقليمية، وتفقد "تل أبيب" تدريجياً قدرتها على فرض سرديتها التقليدية في ظلّ عالم آخذ في التغيّر.

ويعكس هذا الانقسام الواضح في الرؤى الإسرائيلية حول مستقبل الصراع، ليس غياباً للخيارات فحسب، بل أيضاً تقاطعاً مع مصلحة بنيامين نتنياهو الشخصية والحزبية.

إذ لا يقتصر دور نتنياهو على استغلال هذا الانقسام لضمان بقائه السياسي، بل إنّ استراتيجياته القائمة على "عقيدة اللا حلّ" تغذّي وتعمّق هذا الانقسام، عبر شيطنة الفلسطينيين كافة – بمن فيهم السلطة الفلسطينية – ووصمهم بالإرهاب ومشاركتهم في "بيئة 7 أكتوبر". هذا التوجّه يتيح لنتنياهو تأجيل اتخاذ قرارات حاسمة قد تحرجه مع شركائه في الائتلاف الصهيوني الديني من جهة، أو تثير غضب المجتمع الدولي من جهة أخرى، ما يضمن له استمرار سيطرته على المشهد السياسي من دون دفع ثمن سياسي باهظ، عبر إدارة الصراع من دون حلّه فعليّاً.